أولى

قراءة أوليّة في نتائج «سيف القدس»: العجز والاهتزاز في أسس النظام الدوليّ (2)

 زياد حافظ _

في الجزء الأول من مقاربتنا لنتائج “سيف القدس” التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية مساندة بذلك انتفاضة الشعب الفلسطيني ضدّ الاحتلال اعتبرنا الحدث تحرّكاً للصفائح التكتونية التي تؤدّي إلى زلازل وتفجير براكين جديدة وحتى اختفاء قارات. ومن التحوّلات العديدة على الصعيد الفلسطيني تغيير قواعد الاشتباك مع الكيان المحتلّ، حيث أصبحت المقاومة الفلسطينيّة المبادرة بدلاً عن الكيان المحتلّ وأنّ القاعدة الأساسيّة للمواجهة هي “إنْ عدتم عدنا”. لكن هذه قاعدة الاشتباك الجديدة لها تداعيات كبيرة على الصعيد الدولي، كما سنحاول شرحه في هذه المقاربة.

يشهد العالم تنافساً بين منظومتين سياسيتين تطلقان قواعد مختلفة للعلاقات الدولية. فالمحور الذي تقوده الولايات المتحدة ومعها الدول الأوروبية بشكل عام يطلق شعاراً جديداً للنظام الدولي الذي يجب أن يكون مبنياً على القواعد (rules based order) دون تحديد ما هي تلك القواعد إلاّ ما تطلقه الولايات المتحدة. والمقصود بهذه التسمية التصدّي لصعود روسيا والصين الذي يتحدّى النظام القائم الذي تقوده الولايات المتحدة. لكن هذه القاعدة الجديدة لا تُطبّق في كلّ أنحاء العالم وخاصة الكيان المحتلّ الذي ينعم بمناعة مطلقة من أيّ مساءلة ومحاسبة لخرقه “القواعد” و”الشرعية الدولية”، بل إنّ جرائم الحرب وجرائم ضدّ الإنسانية لا تخضع لأيّ نقاش عند الطغمة الحاكمة في الولايات المتحدة. في المقابل يطلق المحور الروسي الصيني شعار الشرعية الدولية المبنية على ميثاق الأمم المتحدة، وقرارات مجلس الأمن، والمواثيق والمعاهدات الدولية، والقانون الدولي المعترف من كلّ الدول، لكنه في حال سيف القدس لم يدِن جرائم الكيان المحتل ضدّ الأطفال والنساء والشيوخ والمدنيين الذين أبادتهم القنابل الصهيونية الأميركية الصنع.

المواجهة التي قادتها المقاومة عبر “سيف القدس” أدّت إلى نتيجتين في مفهوم العلاقات الدولية. النتيجة الأولى هي اهتزاز وعجز الطرحين المتنافسين، أيّ النظام المستند إلى “قواعد” والذي تطرحه الولايات المتحدة، ونظام الشرعية الدولية الذي يطرحه المحور الروسي الصيني. والعجز يعود إلى إخفاق المنظومتين في إيجاد حلّ للمعضلة في فلسطين. أما النتيجة الثانية فهي ظهور طرح العلاقات الدولية على قاعدة العدل والحق. القانون الدولي الوضعي يعكس موازين قوّة قد تتغيّر ومع التغيير يتغيّر مفهوم ومضمون القانون. أما مفهوم العدل والحق فلا يعكس موازين قوة بل هو مبنيّ على قاعدة أخلاقيّة وليس على قاعدة المصالح التي تختلف من حين إلى حين بينما قاعدة الأخلاق أكثر ثبوتاً. ففلسطين محتلة لا الشرعية الدولية ولا عالم مبنيّ على قواعد يستطيع حلّ قضيتها إلا عبر العدل والحق. وبما أنّ العلاقات الدولية ليست مبنية على هذه القاعدة نرى عجز العالم في التدخل لأنّ موازين القوّة الجديدة لم تعد تسمح للتدخل في حالة يصطدم الحق والعدل مع المصالح الدنيوية.

هذا يعني أنّ الولايات المتحدة والدول الأوروبية والمحور الروسي الصيني قد يتفقون على تدخل ما ولكن ليس على قاعدة الشرعية الدولية ولا على قاعدة نظام مبني على القواعد بل على قاعدة ميزان قوّة يهدف إلى نسف العدل والحق من أساسه وذلك لضمان ديمومة الكيان المحتل.

الشرعية الدولية أوجدت الكيان الذي رفض في ما بعد تطبيق كلّ قرارتها وذلك لحلّ مشكلة خارجة عن إرادة الشعب الفلسطيني. فـ “المسألة اليهودية” من نتائج سلوك الغرب وليس من سلوك العرب والمسلمين. وبالتالي قرار تقسيم فلسطين هو قرار معاكس للحق والعدل أخذ به الكيان المحتلّ وضرب في ما بعد عرض الحائط القرارات المتتالية بحقه. وقرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين قرار أعطى “شرعية” للاحتلال وعلى حساب أصحاب الحق في الأرض. والمضحك المبكي أنه بالتالي أعطى “الحق بالدفاع عن النفس” للمحتلّ بينما اعتبر العمل لاسترجاع الأرض لأصحابها عدواناً بل إرهاباً! اليوم تبيّن أنّ ميزان القوّة يسمح لأصحاب العدل والحق أن يصحّحوا الانحراف التاريخي للشرعية الدولية. توحيد الشعب الفلسطيني هو أيضاً توحيد للجغرافيا التي مزّقتها “الشرعية الدولية” بسبب ميزان قوّة كان سائداً آنذاك لم يعد قائماً اليوم. وهذا التوحيد سيفرض الحلّ المبني على الحقّ والعدل وليس شيئاً آخر.

أما على صعيد المقاربة لدور أميركي أو أوروبي ما أو حتى روسي وصيني، فإنّ ذلك الدور يصطدم بالوقائع التي أوجدها الكيان على الأرض والذي يسقط أيّة قاعدة للتفاوض. كما أنّ ذلك الدور المرتقب يصطدم أيضاً بالعجز الناتج عن تفاقم الأوضاع الداخلية في كلّ من الولايات المتحدة والدول الأوروبية وعن السكوت غير المفهوم لكلّ من روسيا والصين عند اندلاع الأحداث.

وبالنسبة لدور الولايات المتحدة، الذي يعتبره العديد من المراقبين والنخب الحاكمة والمثقفة في الوطن العربي دوراً أساسياً، فإنّ ذلك الدور محكوم بمعادلات داخلية لا يستطيع الخروج عنها. فمن جهة نرى إدارة بايدن تواجه معارضة متصاعدة من قبل القاعدة الشعبيّة والنيابيّة وفي مجلس الشيوخ للحزب الحاكم حول الموقف التقليديّ المؤيّد للكيان من دون قيد أو شرط وبين الارتباطات العضويّة للحزب الحاكم باللوبي الصهيوني التي تريد تأييداً أعمى من دون قيد ولا شرط. فالمعارضة المتصاعدة تعكس وعياً جديداً ليقين الكيان ويعكس تراجعاً في النفوذ للوبي الصهيوني في التأثير على هذه المعارضة. لكن هذا الوعي المتصاعد لم يصل حتى الآن إلى مرحلة يستطيع تغيير مسار السياسة الأميركيّة. لذلك أقصى ما يمكن تصوّره لدور أميركي ما هو إدارة الأزمة كي لا تتفاقم ولا تمسّ بمصالح الكيان. هذا هو فحوى المقال الذي حرّره مارتين أنديك في مجلّة “فورين افيرز” على موقعها الإلكترونيّ بتاريخ 21 أيار/ مايو 2021، أي بعد وقف إطلاق النار. ويضيف من جهة أخرى أن “لا حلّ للمشكلة” وأن ليس دور الولايات المتحدة فرض حلّ ما. هذه دعوة للتخلّي عن لعب دور أساسي والاكتفاء فقط بـ “إدارة الأزمة” فهذا إقرار بالفشل لمسار امتدّ لأكثر من أربعة عقود.

من جهة أخرى فإنّ تصريح الرئيس الأميركي بضرورة حلّ الدولتين يصطدم بالوقائع على الأرض، حيث الحركة الاستيطانيّة والمستعمرة ألغت الرقعة الجغرافية التي يمكن أن تقوم عليها “الدولة الفلسطينية”. لكن ما هو أخطر من ذلك ويؤكّد تقييم مارتن انديك أن لا حلّ ممكناً في المرحلة الحالية حيث قال الرئيس الأميركي إن لا حلّ من دون الإقرار بحق الكيان المحتلّ بالوجود. لم يتوقف المراقبون عند هذا التصريح بل ركّز على إعادة طرح حلّ الدولتين. تصريح الرئيس الأميركي يلغي عملياً مفعول اتفاقيات كامب دافيد واوسلو ووادي عربة ومؤخّرا ما يُسمّى بالاتفاقات الإبراهيمية التي جميعها تعترف بـ “حق” وجود الكيان المحتلّ. لذلك يصبح السؤال مَن يعطي حق الوجود للكيان المحتلّ؟ هل الشعب الفلسطيني مطالب بإقرار “حق” الوجود للمحتلّ؟ وماذا عن السلطة الفلسطينية التي أقرّت بذلك؟ المأزق الأميركي حقيقي وليست مهمتنا مساعدته خاصة أنّ الطرح السائد لدى النخب الأميركية وحتى المعارضة لسياسات الكيان هي حق الدفاع عن النفس للكيان. الواقع أن لا حق للدفاع عن النفس للمحتّل وهذه هي حقيقة الموقف. تصريح الرئيس الأميركي أنهى سردية قائمة منذ أكثر من أربعة عقود كانت تدعو إلى الاعتراف المتبادل. حقيقة الأمر هي أنّ الاعتراف حصل من طرف واحد بينما الطرف الصهيونيّ لم يقم بذلك بل عمل وما زال على إلغاء الطرف الفلسطيني من الوجود عبر إبادة بطيئة برضى سلطة أثبتت فشلها في الحفاظ على المصلحة الفلسطينية. وآن الآوان على كلّ المطبّعين وكلّ المروّجين للتطبيع أن يعوا أن لا مجال للتعايش مع طرف لا يريد وجود الطرف الآخر ويعمل على إلغائه تحت عباءة “الشرعية الدولية”. الموضوع هو صراع حول الوجود وليس حول إمكانية التعايش.

وتأكيداً لحدود فعالية الدور الأميركي تأتي الحركة التي تقوم بها الخارجية الأميركية من التواصل مع الكيان ومع الطرف الفلسطيني الذي لم يكن فاعلاً في المواجهة الأخيرة. والحركة الأميركية أقرب للعمل العبثي في محاولة بائسة لإعادة تدوير وسائل استخدمت سابقاً وبرهنت عن فشلها. فالإدارة الأميركية ومَن يقف معها من بعض الدول العربية لا تستطيع أن تقدّم أي شيء للسلطة لتعويمها. وتعويم السلطة ليس هدفه إيجاد “شريك” فلسطيني يستطيع أن يوقّع على تسوية ما بل لإشعال فتنة فلسطينية أخمدتها ما يُسمّى بصفقة القرن. فتوحيد الموقف الفلسطيني أربك المحور الأميركي الصهيوني العربي الخليجي وبالتالي لا بدّ من الفتنة عبر التلويح مجدّداً بحلّ الدولتين الذي لم يعد من الممكن مادياً السير به بسبب حركة المستعمرين المستوطنين الصهاينة. فلا قدرة، بل لا رغبة أميركية لإيقاف الاستيطان لتمكين حلّ الدولتين، ولا قدرة للتأثير على رئيس وزراء الكيان المحتلّ الذي يخشى الحركة الاستيطانية أكثر مما يخشى غضب الولايات المتحدة (غير الموجود أصلاً).

في المقابل فإنّ الإغراءات المالية التي يمكن أن تُعرض على المقاومة فهي إغراءات تمّ استخدامها في السابق ولم تؤدّ إلى التسليم بالأمر الواقع. هذا لا يعني أنّ تلك المحاولات لتعويم و/أو لرشوة المقاومة ستتوقف لكن الوقائع الجديدة التي تحققت في الميدان تحول دون تحقيق الهدف المطلوب. لذلك أقصى ما يمكن اعتباره هو هدنة موقّتة هشّة تنهيها الحركة الاستيطانية في الكيان تعيد المواجهة العسكرية إلى الصدارة هذا إنْ لم تستمرّ الانتفاضة في القدس وسائر المدن في فلسطين المحتلة. وهنا تتبيّن أبعاد كلمة السيد حسن نصر الله وتحذيره بأنّ المسّ بالقدس هو خط أحمر يلزم كلّ محور المقاومة في خوض حرب إقليميّة تؤدّي إلى زوال الكيان. فالمجهود الأميركيّ العبثيّ قد يصطدم بحماقة قيادة الكيان وجنون المستعمرين.

إضافة إلى كلّ ذلك جاءت كلمة أمين عام حزب الله السيد حسن نصر لله وكلمة رئيس حركة حماس في غزّة يحيى السنوار لتجهض أيّ محاولة للالتفاف على النصر المبين الذي حققته المقاومة في المواجهة الأخيرة. والإنذار الذي وجّهاه كلّ من السيد حسن نصر الله ويحيى السنوار هو إيقاف العمل الاستيطاني في القدس وإلاّ لقامت الحرب الإقليميّة التي ستؤدّي إلى زوال الكيان المحتلّ. فإما ينتهي المشروع الصهيوني علي يد الصهاينة أنفسهم وإما ينتهي على يد محور المقاومة أجمع. هذا هو الخيار الفعلي للكيان المحتلّ ولمن يدعمه دولياً وعربياً.

الخطّة البديلة الممكنة للولايات المتحدة والدول الأوروبيّة المؤيّدة للكيان الصهيوني المحتلّ هو تكليف روسيا والصين بمهمة كبح جموح المقاومة في المنطقة. وهذه الخطة تصطدم بعدّة عوائق منها أميركي ومنها روسي وصيني ومنها عربي أيّ العناصر العربية المكوّنة لمحور المقاومة ومعها الجمهورية الإسلامية في إيران. فالعائق الأميركي هو القبول بدور ما لكلّ من روسيا والصين في المنطقة بعد كلّ الكلام التصعيديّ من قبل إدارة بايدن بحق روسيا وقادتها والصين وقادتها أيضاً. فشخصنة الخلاف دليل على ضعف موضوعي في المشهد والموقف الأميركي لا تستطيع النخب الحاكمة الإقرار به حتى الساعة. أما بالنسبة لروسيا والصين، فإنّ أيّ موقف يهدف إلى كبح المقاومة قد يفقدها أيّة مصداقية مع العناصر العربية المكوّنة لمحور المقاومة. فتخسر الإنجازات المتراكمة لديها منذ اندلاع الحرب الكونية على إيران وسورية. لدى روسيا أوراق عديدة تستطيع استعمالها في سورية لكبح دور المقاومة كما أنّ لديها أوراق داخل الكيان عبر المصالح الغازية المشتركة وعبر تواجد جالية روسية وازنة داخله لكن استعمالها هو انتحار سياسي لها. وبالتالي ليس هناك ما يمكن عمله على الصعيد الدولي. لتأخذ طبيعة الأمور مجراها التي ستنتهي بزوال الكيان، إما بسبب حماقة قيادته وتناقضاته الداخلية وإما عبر مواجهة مع محور المقاومة.

*باحث وكاتب اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى