أخيرة

كلمات متقاطعة

} سامي معروف

– إنّها البداية يا عزيزي.

– ماذا تقصد ميتر؟

مسحَ الميتر راحتيه بالمنديل الورَقيّ وأشعل سيكارَه وقال:

– في المدرسَة أثناءَ الامتحانات.. قالوا لنا إنَّ الإجابة التي تَعِنُّ لنا أوّلًا هي الأقرب إلى الحَقيقة، ولكنّ خبرتي المتواضعة في الجريمة تقول بأنَّ الفكرَة الأولى هي الأبعَد عن الحَقيقة.

 كنتُ مُحاميًا متدرّجًا في مكتب الأستاذ دوري حدّاد في ربيع عام 2014. وكنّا أنا والأستاذ ظُهر ذلكَ اليوم نتناول وجبَةً سريعة في مكتبه. ومع كونه ضَليعًا في القانون التّجاري والعقاري، وهو محامي شركات، إلاّ أنَّه كان يَتسقَّطُ باهتمام أخبارَ الجرائم غير العاديَّة، وكان لديه حَدسٌ فِطريّ دقيق في استنتاجاتِه. وكانت جريمَةُ المَوسِم آنذاك، مَقتَلُ المُمثّل رامي الحاج في شُقَّتِه الفسيحَة في الطّبقَة الرّابعَة من ذلك البناء الحَديث الفاخر، تَسليةً ولذّة.

مَجَّ مجَّةً من سيكارِهِ.. وأمسكَ الصَّحيفَة أمامَه وقال لي:

– لقد أوقفوا الصّحافيَّة رندلى دوغان بكونِها المتّهمَة الأولى. سألتُه:

– وما رأيُك أنت؟ فأجابَني:

– هنا في الجَريدة.. صحافيَّة زوجة سياسيٍّ مَحسوبٍ على حزبٍ كبير تقتلُ ممثّلًا مشهورًا لأنَّه كان يَبتزُّها بفيديوهات ورسائلَ بينَهما. ويؤكّد كاتب المقال أنَّها أغرَتِ الشُّرطيَّ بموعدٍ غراميّ. رآها ذلك البَوَّاب في الجَريدة تحملُ قارورة عِطر ملفوفة بمنديل شفّاف وهي خارجة عند السّاعَة السّادسَة مساءً. ورآها أيضًا عاملُ التّنظيفات في البَلديَّة بلباسٍ مثير وهي تدخل إلى البناية التي يسكن فيها رامي الحاج، ورمَت شيئًا مستطيلاً في حاوية القمامة وهي خارجَة بعد ربع ساعة، وظنَّه العامل زجاجة بيرَة. وسمِعَت العَجوزُ الثَريَّة في الشقّة المقابلة لشقّةِ المَغدور صَرخةً أثناءَ الضَّجيج تلاها صَمتٌ لثوانٍ ثمَّ عادَ الضَّجيج، وخرجَت العَجوز لترى رندلى دوغان تستقلُّ المصعَد نزولًا وهي مضطربة. وأخيرًا تلكَ الورقَة المُلصَقة بعِلكةٍ قرب فتحة قفل الباب كُتِبَ عليها RED وهي اختصار الاسم الثلاثيّ للصّحافيَّة.

قلتُ للميتر:

– مفصَّلَة على قياسِها.. المسكينة! فقال لي:

– لا تؤخذ بالمَظاهر.. فهناك المزيد من التطوّرات.

وشُدَّ ما كانت دهشتي بعد أيّام، في برنامج حواريّ تلفزيونيّ! عندما قدَّموا سَرديّةً تتماهى مع فقراتِ المقال في الشَّكل، ولكنَّها تتنافى معه، ربَّما، في المضمون.

القصَّة التّلفزيونيَّة رَوَت أنَّ البَوَّابَ عند مَدخل الجَريدة رأى الصّحافيَّة تحمِلُ شيئًا مستطيلًا ملفوفًا بمنديلٍ أرجوانيّ، وقد هدَّدتِ الشُّرطيَّ تارةً بذِكر اسمِ زَوجِها بصوتٍ عالٍ، وأغرَته طورًا بالمال. ثمَّ رآها عاملُ التّنظيفات مسرعةً خارجَ المَبنى، ورَمَت في حاوية القمامَة الشَّيءَ المَعدنيَّ الطّويل وأحدثَ ضجَّة، وظنَّه العاملُ زجاجة بيرَة. وأمّا العَجوزُ الثريَّة فقد سمِعَت جلبَةً عند باب شقّة جارها الممثّل المعروف لدقائق، فخرجَت ورأت رندلى تقولُ لمُحَدّثِها على الموبايل وهي تهبطُ السُلّمَ بهدوء: «لا.. ليسَ موجودًا في شقَّتِه». وعندما أغلقَتِ العَجوز البابَ وراءَها سمعَت بابَ شقّةِ رامي يُغلَق بقوَّة مُحدثًا صَوتًا. والورَقة التي كانت مُلصَقَة بالعِلكة قرب فتحَة القفل، كتِبَ عليها RED شعارُ شركةِ السّياسيّ زَوج الصّحافيَّة. ويُرجِّحُ الاستنتاجُ أن يكون الزَّوج متورّطًا في الجَريمَة، خصوصًا أنَّ شركته كانت قد مَوَّلت آخرَ أعمال الممثّل رامي الحاج.

فاتّصلتُ من فَوري بالميتر دوري واستوضَحتُه عمّا سمِعت، فقالَ لي:

– قراءَة ثانية للأحداث.. وسيكون هناكَ أخرى حتمًا.

ومَرَّ أسبوعان كلَّ دَقيقةٍ بِعَام.. فقد كنت متلهّفًا لتحليلات الميتر.

وذاتَ مساءٍ كنّا أنا والميتر دوري في سيّارتِه، ذاهبَين لمشاهدة فيلم من نوع thriller mystery الذي يهواه الأستاذ كثيرًا. فإذا براديو السيّارة يُتحفُنا بالقراءَةِ الثالثة وما نتجَ عن التّحقيقات. ومختصرُها أنَّ الجَريمة مؤامرَة ذكيَّة من صنع العَجوز الثريَّة! التي أرادت التخلّص من جارها الفنّان المزعج، وحَفلاتِه الكثيرَة وهواياتِه الغريبة. لقد رأى بَوَّابُ الجَريدة الصّحافيَّة تحمل الآيباد وهي خارجَة. شوهِدَت تؤَدّي التَحيَّةَ للشُّرطيّ عند أوّلِ الشّارع وهي تضحَك، ورآها عاملُ التّنظيفات وهي ترمي علبةَ السّكائر في الحاوية، ثمَّ قرَعَت بابَ العَجوز الثريَّة لتسألَ عن رامي الحاج ودَعَتها الأخيرَة إلى فنجان قهوة. وأمّا كتابَةُ الورَقة المُلصَقة على الباب فهي حروفُ رَمز العُصبَةِ الفنيَّة التي كانت تجتمعُ دَوريًّا في شقَّةِ رامي. وكان الاستنتاجُ المُذهل تاجَ هذه الوقائع السّرياليَّة.. بأنَّ الشّرطيَّ والبوَّابَ وعامل التّنظيفات والصّحافيَّة شاركوا العَجوزَ في جَريمتِها. وانفجرَ الميتر دوري ضاحكًا لمدّة دقائق عاجزًا عن الكلام.

ثمَّ مَرَّ شَهرٌ كامل بعد القراءَة الثّالثة، ورُحت أنسى الموضوع شيئًا فشيئًا منهمكًا بالعَمل.

وفي صباحٍ ماطرٍ من صَبيحات أواخر آذار اللّطيفة.. رَكنتُ سيّارَتي ووثبتُ إلى رَدهةِ المَدخل حاملًا شمسيَّتي، فإذا بالميتر يخرج من المصعد ويقول لي: «خذني معَكَ إلى الدّائرة العقاريَّة، سيّارتي في الكاراج». فانطلقتُ به إلى حيث يريد. وقال لي في الطّريق، وهو يُشعل ما تبقّى من عقِبِ سيكارِهِ، مُنغّمًا كلماتِه لإثارَتي:

– لقد ظهَرَت الطّبعَةُ الرَّابعَة من أحداث الجَريمَة! فهتَفت:

– حقًّا! هيّا تكلّم يا أستاذ. فقال:

– إنّها رسالة غامضة لرامي الحاج يقول فيها بأنَّه انتَحَر.

– وكيف وُجِدَت الرّسالة؟

– لقد قدَّمَتْها أختُه دلال إلى التَّحقيق بحسَب كلام الصَّحيفة اليَوم. دلال الحاج امرأة جميلة جدًّا. وأمّا الوقائعُ فهي نفسُها مع إضافة جملة واحدَة.. تغريدَة لرامي قبلَ أيّام على حسابِه على التّويتر: «لم أفهَمِ اللُّعبَة.. ففَضَّلتُ الانسحاب». قلتُ مازحًا:

– على هذه الحال.. يمكننا أن ننشرَ نحن مقالًا، ونبني على الوقائع عينِها استنتاجًا جديدًا.. وهو أنَّ الأخت هي القاتلة! والدّافع مصلحَة ما تربطُها بالسّياسيّ زَوج الصّحافيَّة. فتكلَّمَ الأستاذ دوري وهو يَمجُّ الدّخانَ من فمِه:

– المقالُ الأوَّل صوَّرَ الصّحافيَّة غانيةً وهذا هو الهَدَف، والقصَّةُ التّلفزيونيَّة ضيَّقَت على السِّياسيّ زَوجِها وهذا هدفُها، والتّحقيقُ الأوَّلي نظَّفَ التلوُّثات عن عباءَةِ السّياسيّ ونجَحَ في ذلك، وأخيرًا رسالةُ الانتحار بَرَّأتِ الجَميعَ بالكامل.. ليسَ هناكَ قاتل! تذييلٌ خَلاّق لفُصولِ المأساة.

لقد انتهَتِ القضيَّة يا صديقي. والحَقيقةُ دائمًا حروفٌ تائهَة في مربَّعاتِ الكلمات المتقاطعَة.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى