أولى

قراءة أوليّة في نتائج «سيف القدس» (3): نحو نظام عربيّ جديد…؟

 زياد حافظ*

في الجزءين السابقين لمقاربتنا عن نتائج «سيف القدس» وجدنا أن على صعيد الصراع العربي الصهيوني أصبحت المبادرة ولأول مرّة في تاريخ الصراع بيد المقاومة، وأنّ قاعدة الاشتباك الجديدة التي فرضتها المقاومة هي «إنْ عدتم عدنا». أما على الصعيد الدولي فإنّ العلاقات الدوليّة التي كانت تحكمها الشرعية الدولية المتمثلة بميثاق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن، والمواثيق والمعاهدات والقوانين الدولية لم تكن صالحة في مواجهة جرائم الحرب وجرائم ضدّ الإنسانية التي ارتكبها وما زال الكيان الصهيوني المحتلّ. كما أنّ النظام الآخر الذي تريد فرضه الولايات المتحدة ومعها الدول الأوروبية وفي طليعتها المملكة المتحدة، رأس الأفعى في الصراع العربي الصهيوني، والمبني على قاعدة الأحكام (rules based order) اصطدم بمنظومة جديدة ولدت من رحم المقاومة وهي نظام مبنيّ على الحق والعدل. فالشرعية الدولية تمثل مصالح وكذلك النظام الأميركي الجديد الذي يهدف فقط إلى منع صعود الصين وروسيا، بينما النظام الصادر عن المقاومة هو نظام الحق والعدل.

في المقاربة التي نقدّمها في هذه المداخلة نبحث نتائج «سيف القدس» على النظام العربي القائم وكيف يمكن أن يتحوّل إلى نظام أقرب لنظام الحق والعدل المبني على قاعدة أخلاقية ثابتة وبعيداً عن نظام مبنيّ على موازين قوّة متحرّكة ليست بالضرورة مبنية على قاعدة أخلاقيّة إيّاها كانت. والعلاقة بين قاعدة الاشتباك الجديدة والنظام العربي الجديد علاقة عضوية حيث سلوك النظام العربي القائم مبني على فرضيتين انتهى مفعولهما بـ «سيف القدس». الفرضية الأولى هي أن 99 بالمئة من أوراق اللعبة بيد الولايات المتحدة والفرضية الثانية أن الكيان الصهيوني المحتل هو البوّابة للوصول إلى «نعيم» الولايات المتحدة الأميركية.

النظام العربي القائم منقسم إلى محورين ناتجين عن قراءة متباينة لموازين القوّة دولياً وإقليمياً وبالنسبة للقضية المركزية الأولى في الوطن العربي أيّ قضية فلسطين. فبعد رحيل القائد الخالد الذكر جمال عبد الناصر وبعد اتفاقيات كامب دافيد المشؤومة انتقل ثقل النظام العربي من مصر إلى دول النفط الخليجي. ولم تنج القيادة الفلسطينية من براثن سوء التقدير في موازين القوّة فكانت اتفاقيات أوسلو الأكثر شؤماً من كامب دافيد والتي أسقطها كلّ من اغتيال رابين في تشرين الثاني 1995 وانتفاضة الأقصى في 2000. أما اليوم فـ «سيف القدس» أسقطت «صفقة القرن» والاتفاقيات الإبراهيمية. لكن النظام العربي منذ بداية الثمانينيات أصبح غطاءً للحلف الأطلسي تجلّى احتلال الكيان الصهيوني للبنان وفي الحرب الأولى والثانية في الخليج والعراق ثم احتلال العراق كما تجلّى بتغطية العدوان على ليبيا وسورية واليمن، والتنكّر لقضية فلسطين عبر الاستثمار العبثي في التطبيع مع الكيان المحتل في فلسطين. كما حاول النظام العربي الرسمي استبدال العداء للجمهورية الإسلامية في إيران بالعداء للكيان المحتلّ قالباً رأساً على كعب الأولويات، فكانت الاتفاقيات الابراهيمية المشؤومة تتويجاً لذلك المسار الذي سرعان ما سقط بصواريخ «سيف القدس» والوقائع الجديدة على الأرض.

لذلك يصبح اهتزاز نظرية الـ 99 بالمئة من الأوراق (وفي رأينا سقطت نهائياً وإنْ لم تستوعبها بشكل واضح النخب الحاكمة في الوطن العربي)، ونظرية المرور بالبوّابة الصهيونية للوصول إلى نعيم الولايات المتحدة، مدخلاً لمراجعة النظام العربي الرسمي ولتبعيته للولايات المتحدة. وذلك خاصة أنّ الكيان الصهيوني برهن عن عجز متراكم في القيام بالدور الوظيفي الذي من أجله وضع فأوقع في حيرة الولايات المتحدة، حيث بدأ النظر إلى الكيان بأنه عبء على الولايات المتحدة. فضربات المقاومة في لبنان والعراق وفلسطين واليمن وصمود سورية في وجه العدوان الكوني عليها الممتدّ لأكثر من عقد من الزمن أدّت إلى اهتزاز الثقة عند النخب العربية المتماهية مع سياسات الولايات المتحدة. أما العدوان الكوني على سورية بمشاركة ومباركة بعض الدول العربية وبتوجيه أميركي وصهيوني ففشل فشلاً ذريعاً توّجته انتخابات رئاسية كانت أقرب إلى استفتاء بشأن الالتفاف حول الدولة وقيادتها ونقض لمشروع بديل لم يجد أيّ صدى عند السوريين. كما أن العدوان على اليمن فشل رغم الشراسة التي تميّز بها وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها تحالف العدوان. وبالتالي، إذا حُسم الأمر في الداخل في كلّ من العراق ولبنان لصالح القوى المؤيّد لمحور المقاومة وهذا مرتقب، فإنّ النظام العربي الجديد سيكون نواته محور يمتدّ من بيروت إلى دمشق إلى بغداد إلى صنعاء. ويمكن إضافة أيضاً الجزائر التي لم تكن طيّعة للدول الخليجية النفطية المهيمنة على قرارات جامعة الدول العربية.

عنوان المرحلة المقبلة في النظام العربي الجديد هو التشبيك الاقتصادي كخطوة نحو وحدة الموقف السياسي والعسكري والأمني والاقتصادي بين الدول العربية على الأقل في المشرق العربي وجنوب الجزيرة العربية. والتشبيك هو السبيل الوحيد لتحصين استقلالية الدول في وجه محاولات الهيمنة وتقويض الاستقلال الوطني. الكتلة الاقتصادية التي ستنشأ من خلال التشبيك الاقتصادي ستجعل وحدة الموقف السياسي حتمية لتحصين ذلك التشبيك. والتشبيك هو عودة إلى مسار أطلق في الستينيات من القرن الماضي في ذروة المد القومي الذي ترجم روح الوحدة بحقائق تشريعية كسوق عربية مشتركة واتفاقية دفاع مشترك على سبيل المثال وليس الحصر. لكن ظلّت تلك التشريعات مشاريع في الأدراج لغياب القيادة العربية لتنفيذ ذلك وللانصياع إلى أوامر الغرب الذي لم يكن ليريد في أي يوم من الأيام أن تتوحّد هذه الأمة.

غياب الرئيس جمال عبد الناصر أفقد الأمة قيادة كانت تريد تلك الخطوات التوحيديّة فخرجت مصر في ما بعد من دائرة الصراع العربي الصهيوني مما أفقد توازن الأمة. صعود محور المقاومة وصموده أمام أشرس أنواع العدوان قد يشكّل الفرصة الثانية أولاً لإعادة التوازن في الأمة وثانياً لتحقيق تلك الخطوات التوحيدية. وقيادة النظام العربي ستكون من مسؤولية قيادة محور المقاومة ومن يتحالف معها. فعبر التشبيك نتجاوز مآسي التجزئة التي أوضحتها أدبيات مركز دراسات الوحدة العربية والمؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي الإسلامي. كما أنّ التشبيك هو التجسيد الاقتصادي لمفهوم الكتلة التاريخية لمكوّنات الأمة في مواجهة التحديّات المصيرية. ففي التشبيك تصبح الوحدة ممكنة وعبر الوحدة يُصان استقلال الأمة وأقطارها من دون تذويب الخصوصيّات. وعلينا أن نتذكّر أنّ محاولة التنمية داخل الحدود القطرية الموروثة من حقبة الاستعمار أجهضها تحالف الإمبريالية والصهيونية والرجعية العربيّة. فلا إمكانية للنهوض إلاّ عبر الوحدة وطريق الوحدة يمرّ عبر التشبيك. والتشبيك هو سمة النظام العربي الجديد الذي سيوجده محور المقاومة. وهنا لا بدّ من تثمين مبادرة الرئيس اللبناني ميشال عون في الدعوة لتعاون اقتصادي بين دول المشرق العربي إلاّ ترجمة لنواة نظام عربي جديد يرتكز على المصالح المشتركة وفي مواجهة التحدّيات المشتركة.

يبقى أن نعالج مسألة الفيل في الغرفة والتي لا يتكلّم عنها أحد، على الأقلّ في الوقت الحاضر، وهو دور مصر في النظام العربي الجديد. مما لا شكّ فيه بالنسبة لنا أن لا توازن في النظام العربي الجديد من دون مصر لما تمثّله من موقع جغرافي، وكتلة بشرية، وتاريخ حافل حمل هموم الأمة وقدّم التضحيات من أجلها. وفي الماضي حتى القريب كانت المعادلة السائدة هي أن لا حرب دون مصر ولا سلام دون سورية. التطوّرات التي حصلت خلال العقود الثلاثة الماضية أدخلت تعديلات جوهرية على تلك المعادلة ولكنّها لم تلغ، ولن تلغي، دور مصر في التوازن العربي. لكن ذلك الدور مرهون بموقف واضح من اتفاقيات كامب دافيد التي لم تأت بالمنّ والسلوى كما اعتقدت نخب روّجت للسلم مع الكيان المحتلّ. ففي ندوة افتراضية دعا إليها المركز العربي للتواصل والتضامن والمؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي الإسلامي ومؤتمر الأحزاب العربية والهيئات النقابية الشعبية أقيمت في شهر شباط/ فبراير 2021 حول مناهضة التطبيع بات واضحاً من الأوراق التي قدّمت بما فيها الورقة الاقتصادية أنه بعد 40 سنة من التطبيع لم تستفد الدول المطبّعة (مصر والأردن) ولا منظمة التحرير من جرّاء ذلك. والتطبيع كان ترجمة لنظرية الـ 99 بالمئة من أوراق اللعبة والبوّابة الصهيونية التي ما زالت تحكم عقول بعض المطبّعين الجدد! والسؤال الذي طُرح في تلك الندوة هي إذا سقطت الذريعة الاقتصادية للتطبيع فما هي جدوى التطبيع؟

عملية «سيف القدس» أنهت كلّ ذلك ونعتقد أنّ الدولة العميقة في مصر بدأت منذ فترة مراجعة العديد من الأمور في ما يتعلّق بدورها وذلك بعد ثورة كانون الثاني/ يناير 2011. فلم تشترك مصر بالعدوان الكونيّ على سورية كما لم تشارك مصر في العدوان على اليمن. كما أنّ مصر تعي أنّ أمنها القومي مهدّد، غرباً وشرقاً بسبب جماعات التعصب والغلو والتوحّش بمن يدعمها، وجنوباً بسبب سد النهضة. كما أن مشاريع التطبيع الخليجية أوردت بدائل عن قناة السويس والتجارة عبر البحر الأحمر هي أيضاً تهديد مباشر لمصر. من نتائج تلك المراجعة كان تحسين العلاقات مع المقاومة في قطاع غزّة مساهماً في تخفيض حدّة التوتر والحذر المتبادل وسمح لفتح الرئة في إطار الحصار المطبق على القطاع. وبالتالي تستطيع مصر أن تكون أكثر فعّالية في حماية الحق الفلسطيني مما كانت عليه في السابق علماً أنّ شبكة الأنفاق التي كانت تخرق الحصار أقيمت بمعرفة السلطة في مصر وأنّ تدمير بعض الأنفاق لا يعني تدميرها جميعاً وإلا كيف استطاعت المقاومة تعزيز قدراتها العسكرية في ظلّ الحصار المطلوب أميركياً وصهيونياً؟

من جهة أخرى باشرت مصر في تنويع مصادر تسليحها كما فعلت في الخمسينيات مما أغضب الولايات المتحدة التي سيطرت على التسليح المصري منذ كامب دافيد. والابتزاز الاقتصادي والمالي التي كانت خاضعة له من قبل بعض الدول الخليجية بدأ ينحسر بسبب تحسّن الأوضاع الاقتصادية في مصر. فبالنسبة لنا أصبحت مسألة عودة مصر إلى موقعها الطبيعي مسألة متى ولم تعد مسألة إذا. كثيرون كانوا، ونحن منهم، يتمنّون أن تكون مصر في طليعة مناهضة الكيان ولكن كنّا أيضاً من الذين يرفضون التهم التي كانت وما زالت توجّه لمصر. فما زالت العقيدة القتالية للجيش المصري تعتبر الكيان الصهيوني المحتلّ عدوّاً لها، وأنّ الجيشين الثاني والثالث هما استكمال للجيش الأول الذي هو الجيش العربي السوري. فهذه حقائق أساسية لا يمكن تناسيها. وبالتالي فمصر هي كنهر النيل، هادئة ولكنها عند الطوفان تجرف كلّ شيء. نعتقد أنّ ذلك الوقت قد اقترب.

الأمر الآخر في النظام العربي المرتقب بعد «سيف القدس» هو مسألة الأمن في الجزيرة العربية بعد خيبة الأمل من استمرار الحماية الأميركية والصهيونية لها بل في عجزها عن تحقيقه. فالعدوان على اليمن تحوّل إلى معارك داخل عمق بلاد الحرمين كما أنّ التصدّع داخل التحالف بين مكوّناته الخليجية بمثابة إعلان فشل ذلك العدوان. فالدول المعتدية لم يعد باستطاعتها الاستمرار في سياسات العداء لليمن وسورية والجمهورية الإسلامية في إيران وتحمّل تداعيات ذلك الفشل. هذا ما يفسّر المبادرات التي نشهدها لإعادة العلاقات مع الجمهورية الإسلامية في إيران ومع الجمهورية العربية السورية التي نتوقع أن تستمرّ وثمر في تنقية الأجواء العربية. فدور محور المقاومة تكرّس في منظومة أمن دول الجزيرة العربية وخاصة دور اليمن في إعادة التوازن لدول الجزيرة العربية.

في خلاصة القراءة الأولية للمشهد العربي بعد «سيف القدس» نستطيع أن نقول إنّ نظاماً عربياً جديداً سيقوم ونواته الأساسية هي دول محور المقاومة. مصر، عاجلاً أم آجلاً، ستعود إلى دورها بعد أن تقتنع الدولة العميقة أنّ كلفة الخروج من معاهدة كامب دافيد ستكون أقلّ بكثير من التمسّك بها. كما أنّ التوازن للدول في الجزيرة العربية سيعود عبر الدور القيادي لليمن. في ما يتعلّق بدول المغرب العربي فإنّ الجزائر سيكون لها دور كبير بعد تجاوز الخلاف مع المغرب الذي تزّكيه المخابرات الأميركية والأوروبية والصهيونية. ونعتقد أنّ تفعيل اتحاد دول المغرب سيكون له دور أساسي عبر التشبيك الاقتصادي الذي ذكرناه.

ننظر في العشرية المقبلة إلى بروز كتلة عربية وازنة تتفاعل مع دول الجوار كـ تركيا والجمهورية الإسلامية في إيران على قاعدة الندّية، وعلى قاعدة أنّ العرب عرب والأتراك أتراك والإيرانيين إيرانيون. كما ننظر إلى دور تفاعلي أكبر مع دول الجوار الأفريقي استكمالاً لمسيرة بدأت في الخمسينيات من القرن الماضي. بعد «سيف القدس» لا يمكن التحدّث عن ملكية الأوراق بيد الولايات المتحدة كما لم يعد ممكناً الحديث عن دور فعّال للكيان الصهيوني لدخول المنزل الأميركي. فذلك المنزل لم يعد جهة التوجّه فإنّ الثقل انتقل إلى آسيا وبالتالي سقطت البوّابة الصهيونية وخاصة بعد كشف عجزها العسكري في عملية «سيف القدس» التي كرّست تراكم الإخفاقات الميدانية لجيش بيت العنكبوت.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*باحث وكاتب اقتصاد سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى