أولى

لبنان: الكارثة المتفاقمة والحلول الغائبة!؟

 العميد د. أمين محمد حطيط*

في العام 1967 أحجم لبنان عن دخول الحرب التي شنّتها «إسرائيل» على دول الطوق يومها بذريعة الضعف وعدم القدرة الدفاعية التي تحمي أرضه، ولما انتهت الحرب بعد أيامها الستة المعدودة ارتدّت «إسرائيل» على لبنان فألغت اتفاقية الهدنة معه من جانب واحد وشرعت في قضم أرض لبنانيّة في مزارع شبعا، القضم الذي استمرّ حتى العام 1973، حيث سيطرت «إسرائيل» على كامل المزارع ولم يحرك لبنان ساكناً خشية أن يُضمّ إلى القرار 242 ويضطر للتفاوض على الأرض ويسقط الحدود الثابتة باتفاقية «بوليه نيوكمب» 1923 والمؤكد عليها باتفاقية الهدنة 1949. ومن جهة أخرى نذكر أيضاً بأنّ لبنان الذي لم يشارك في حرب 1967 والتزم سياسة الحياد فيها من أجل حماية اقتصاده على أبواب فصل الصيف يومها وجد اقتصاده بعد الحرب ينهار ويظهر بأنه ضحية لتلك الحرب التي وضعت حداً للطفرة والنمو الاقتصادي اللبناني وتسبّبت بزعزعة أركانه أو لنقل هزة كبرى غيّرت مسارات النمو ووضعت حداً للبحبوحة.

بدأت بذكر هذه الواقعة اليوم ليس من أجل السرد التاريخيّ طبعاً، ولكن من أجل الإشارة إلى حقيقة ثابتة في تاريخ لبنان مفادها القول إنّ تجنّب المواجهة أو الاتجاه إلى الحياد أو كما يُقال ابتداعاً وخرافة لبنانية «النأي بالنفس»، أنّ كلّ ذلك لا يضمن دائماً الحقوق ولا يؤدّي إلى حمايتها ولا يمكن من استرجاعها إنْ اغتصبت، خاصة إذا كان العدو الذي يهدّد تلك الحقوق من نسخة وطبيعة العدو «الإسرائيلي» وكان المُعتدى عليه دولة كلبنان واهنة هشة في نظامها وسلطتها وماليتها.

اليوم تكاد الصورة ذاتها تستعاد، إذ إنّ لبنان الرسمي وفي مواجهة الحرب الكونية التي شنّت على سورية وعلى محور المقاومة زعم انه التزم سياسة «النأي بالنفس»! وهي أغرب بدعة يمكن أن يتسامع بها في العلاقات الدولية، خاصة اذا كانت الدولة متشابكة مع محيطها اللصيق في الجغرافية والتاريخ والديمغرافية والاقتصاد، ولو لم تبادر المقاومة لامتشاق السلاح والدفاع عن لبنان على الأرض السورية ابتداء ثم على الأرض اللبنانية هي والجيش اللبناني بعد وصول العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، لكان الإرهابيون فعلوا في لبنان ما سبق لهم وارتكبوه من جرائم القتل والتشريد والتخريب والتدمير التي ارتكبوها في سورية والعراق.

لقد استطاعت المقاومة بقرارها الأوّلي الذي لم يتوقف عند «سياسة النأي بالنفس» الغبية، أن تحمي لبنان من الإرهاب، لكن الحرب الكونيّة التي قادتها أميركا ومعها «إسرائيل» ضدّ سورية لم تكن عسكرية فقط، بل تعدّدت صنوفها وسقوفها وأشكالها وشملت في ما شملت الحرب الاقتصادية والإرهاب الاقتصادي، وهنا بدل أن يساهم لبنان في تخفيف آثار العدوان على سورية ويدافع عن نفسه عبرها خاصة بعد أن وضع قانون قيصر الأميركي موضع التنفيذ وهو القانون الذي ادّعت أميركا كذباً انه لا يمسّ لبنان، فقد كان العكس تماماً حيث ساهم الممسكون بالقرار الاقتصادي والمالي في لبنان في الحرب على سورية بشكل إجرامي وحرموا السوريين من أموالهم المودعة في لبنان كما حرموا المودعين اللبنانيين أيضاً من مالهم وطبّقوا «قانون قيصر» بشكل أسوأ مما كان يطلب واضعوه الأميركيون، وظنّ هؤلاء جهلاً او ارتهاناً بأنّ في ذلك كسباً للرضا الأميركي وصيانة للاقتصاد اللبناني، وأغفل هؤلاء أيضاً ما حاكته أميركا للبنان من خطة عدوان هي خطة بومبيو التي تتضمّن الانهيار الاقتصادي والمالي.

وهكذا تأكد على أرض الواقع بأنّ الحرب الاقتصادية على سورية شملت لبنان وكشفت عوراته الاقتصادية والمالية دفعة واحدة وأظهرت على الطبيعة الكارثة الاقتصادية الحقيقية التي يعيشها لبنان بسبب نهب الأموال العامة من قبل المسؤولين وبسبب الفساد المستشري في الإدارة العامة وعلى كلّ الصعد، وبسبب سياسة الامتيازات والاحتكارات والوكالات الحصرية، وبسب السرقات المبرمجة بما أُسمي الهندسات المالية التي وضعها حاكم مصرف لبنان ما أدّى إلى إثراء المصارف وإغنائها من مال المودعين من لبنانيين وغير لبنانيين ومنهم سوريين قيل إن رصيد ودائعهم في لبنان تخطى الـ 25 مليار دولار. هكذا وبلمح البصر انكشف الاقتصاد اللبناني وظهر وهنه وخواؤه وظهرت الطبقة السياسية والاقتصادية والمالية على حقيقتها بأنها زمر من اللصوص منهم الكثير من العملاء للخارج، والفاسدون المفسدون الذين قادوا لبنان إلى الانهيار والجوع والبطالة والويلات.

لم تكن الحرب الاقتصادية على سورية وخطة بومبيو الإجراميّة هي السبب الوحيد للانهيار الاقتصادي اللبناني، بل كانت تلك الحرب أحد الأسباب التي فاقمت الأزمة والسبب الرئيسي الذي كشف عن الحقيقة. وشكلت رداً مباشراً وعملياً على أولئك الذين فاخروا بسياسة النأي بالنفس وقاطعوا سورية وامتنعوا حتى عن الحديث معها لا بل إنّ مسؤولين كباراً يعلم القاصي والداني أنّ الرعاية السورية هي التي بنت لهم مواقعهم وأنتجت لهم أمجاداً يتغنون بها الآن، قاطعوا سورية وعملوا مع أميركا ضدها بشكل بشع.

إنّ مأساة لبنان باتت حقيقية كارثية قائمة، والكارثة الأفظع هي عدم الاعتراف بالمسؤولية عنها والإصرار على التمسك بالأشخاص والأساليب ذاتها التي أدت إلى الكارثة، متناسين الحكمة القائلة بانّ «المقدمات ذاتها تؤدي إلى النتائج ذاتها» أو أن تطابق المقدّمات يحكم بتطابق النتائج، وبالتالي فإنّ تماثل الأشخاص والأدوات والأساليب يؤدّي إلى نتائج متماثلة. وفي حالنا يعني أنّ لبنان سيكون أمام مأساة تتفاقم وليس أمام إشكالية يتبعها حلّ.

والغريب في الأمر أنّ من يتفحّص مسارات وآلية البحث عن حلّ لمأساة لبنان يصاب بالذهول، حيث إنه يجد أولاً أن المتسبّبين بالكارثة هم أنفسهم يستأثرون بالبحث عن حل بعد أن أوكل إليهم أمر الإخراج منها، وأنّ أدوات إنتاج الكارثة هي نفسها الأدوات التي يتمّ التمسك بها والأفظع من ذلك هي الدعوة أو الإصرار على سياسة العزلة والنأي بالنفس أو ما ابتدع بتسميته «الحياد الناشط» الذي ليس له مكان في القانون إلا في أوهام وخيال مَن يطلقه.

أما الحلّ الذي نراه فإنه يجب أن يُرسى على قوائم ثلاث تتمثل بإصلاح سياسي واقتصادي ومالي. ففي السياسة لا بدّ من تغيّر أو إصلاح جذري يضع حداً للطبقة السياسية الفاسدة التي ترفع شعار حقوق الطائفة وتنهب أموال الطائفة والوطن والمجيء بمن يعمل للوطن والدولة والشعب ولا يكون مطواعاً للخارج. وفي الاقتصاد يجب أن يقوم الإصلاح على شقين أو فرعين فرع في الماهية وعبره نتحوّل إلى الاقتصاد الإنتاجي الذي قضت عليه سياسات ما بعد 1992، وفرع استراتيجي يقوم على الاندماج الاقتصادي التكاملي مع المحيط وبشكل خاص الدول العربية الثلاث التي توجّه اليها الرئيس ميشال عون بمبادرته طارحاً السوق الاقتصادية المشرقية، (بدأت مصر مع الأردن والعراق بهذا التعاون الفاعل وندعو إلى انضمام لبنان وسورية لهما) كما والانفتاح على الشرق بشكل عام وعلى الصين وإيران وروسيا بشكل خاص مع وضع حدّ لسياسة الاحتكارات والتبعية للغرب. وأخيراً الإصلاح النقديّ الذي يجب أن تقوم به لجنة من الخبراء يضع حداً للدولرة ويعيد إلى القطاع المصرفي الثقة ويحرر أموال المودعين أو على الأقل يضع جدولاً زمنياً لإعادتها حتى ولو طال الوقت بضع سنين، فالمهمّ ألا تضيع.

هذه برأينا الخطوط الكبرى للحلّ، لكن للأسف لا نرى مَن يسعى اليه بشكل يدعو إلى طمأنينة ما بل نرى استشراء في النهب والسيطرة واستباحة الدولة الأمر الذي يطرح السؤال: متى يتحرّر اللبناني من زعيمه الجلاد، ومن مرجعيته الخارجية الظالمة المستبدة ويعمل باستقلالية القرار وليس بالحياد التافه، يعمل بإرادة وقرار مستقلّ من أجل نفسه ووطنه؟ وهل ستبقى الحلول غائبة حتى تلك اللحظة؟

*أستاذ جامعي – خبير استراتيجي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى