أخيرة

… وقاضيان في النار

}سمير رفعت

لوالدي صديق طفولة ودراسة في دمشق كان اسمه سعيد محاسن نالا شهادة البكالوريا معاً وصار وقت دراسة الحقوق في الآستانة في تركيا اذ لم يكن هناك غيرها لهذا الاختصاص، وقد استمرت الدراسة مدة أربع سنوات كان سعيد محاسن ضيفاً فيها مع والدي في بيت جدي في تركيا، وكانت جدتي تقوم بخدمة الصديق الضيف كما تخدم ابنها تماماً طوال مدة الدراسة حتى تخرّجا يحملان شهادة الحقوق، وعادا الى دمشق فمارس سعيد محاسن مهنة المحاماة وكان من ألمع المحامين، بينما دخل والدي سلك القضاء وتدرّج فيه من حاكمية محكمة الصلح حتى رئيس محكمة الجنايات فالتمييز، وتسلّم والدي أيضاً وظيفة نائب عام الجمهورية فوزيراً للعدل. وقد استمرّت صداقته مع سعيد محاسن الذي استمرّ في سلك المحاماة بالإضافة إلى أنه شغل منصب وزير داخلية لأكثر من مرة…

خلال تسلّم والدي وظيفة النائب العام للجمهورية، قام سعيد محاسن صباح أحد الأيام بزيارة والدي في البيت صباحاً باكراً، ولكن والدي اعتذر منه لأنه في طريقه الى القصر العدلي، وكان يُعرَف عنه بأنه يكون على رأس عمله في الثامنة صباحاً تماماً، لذلك كانوا يضبطون ساعاتهم على لحظة دخوله التي لا تقدَّم ولا تؤخَّر أبداً.

لذلك حين اعتذر من صديقه على هذه الزيارة الصباحية المبكرة خرجا معاً من المنزل، فوجد والدي أمام المنزل خصماً للسيد محاسن في دعوى معروضة أمامه كنائب عام…

وصل والدي الى مكتبه فطلب فوراً من كاتب الضبط أن يحضر له دعوى السيد محاسن والخصم الذي حيّاه صباحاً، ودوّن على الدعوى اعتذاره من عدم متابعة جلساتها من قبله وحوّلها الى معاون النائب العام.. وما هي إلا دقائق حتى دخل السيد محاسن مكتب والدي مستفسراً ومستغرباً تنحّيه عن متابعة حيثيات الدعوى.. قال له والدي: لماذا أتيت لزيارتي في بيتي صباحاّ باكراً، أجابه محاسن أنها زيارة عادية ولم أحدثك كلمة واحدة عن الدعوى.. هنا أجابه والدي: لكن وجود خصمك في الدعوى أمام بيتي في تلك الساعة المبكرة من الصباح ومشاهدته لنا سوياً لا يمكن إلا أن يشكّ بأنك أتيت تحدّثني عن دعواك معه.. وطالما دخل الشك قلبه لا أستطيع أن أزيله إلا بطريقة واحدة وهي التنحّي عن متابعة الدعوى.

تذكرت هذه الحادثة وأنا أستمع قبل أيام الى التلفزيون يعرض دعوى أمام قاضي نيابة عامة في بيروت سحبها قاض كبير وشطب منها اسم مدّعى عليه بتهمة اختلاس وهدر مال عام، وأعادها الى قاضي النيابة بعد أن اطمأنّ الى أنّ اسم صديقه وعضو دكانه السياسي قد أزيل…

وتذكّرت بعض كلمات كان يردّدها والدي أمامي إذ كان يقول القاضي ظلّ الله على الأرض… فالله يمنح الحياة والثروة والقاضي يحجبهما بحكم إعدام أو دعوى مالية بين متخاصمين… لذلك كان يؤكد لي قولاً آخر لصعوبة إحقاق العدالة… قاضٍ في الجنة وقاضيان في النار… والواضح مَن هو في الجنة ومَن هو في النار.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى