أولى

التأويل المفرط للنص !!

 د. محمد سيد أحمد

وفقاً لفقه الأولويات استولت قضيّة سد النهضة على اهتمام الرأي العام المصري خلال الأسبوع الماضي, ووصلت ذروة الاهتمام يوم الخميس الذي شهد جلسة مجلس الأمن بخصوص سد النهضة, حيث تقدّمت تونس العضو غير الدائم بمجلس الأمن بمشروع قرار يدعو إثيوبيا إلى التوقف عن الملء الثاني لخزان سد النهضة, وينص مشروع القرار على أن «مجلس الأمن يطلب من الدول الثلاث – مصر وإثيوبيا والسودان – استئناف مفاوضاتها بناء على طلب كلّ من رئيس الاتحاد الأفريقي والأمين العام للأمم المتحدة, لكي تتوصل, في غضون ستة أشهر إلى نص اتفاقية ملزمة لملء السد وإدارته».

ووفقاً لمشروع القرار فإن الاتفاقية الملزمة يجب أن «تضمن قدرة إثيوبيا على إنتاج الطاقة الكهرمائية من سد النهضة، وفي الوقت نفسه تحول دون إلحاق أضرار كبيرة بالأمن المائي لدولتي المصب», كما يدعو مجلس الأمن في مشروع القرار «الدول الثلاث إلى الامتناع عن أي إعلان أو إجراء من المحتمل أن يعرّض عملية التفاوض للخطر», ويحضّ في الوقت نفسه «إثيوبيا على الامتناع عن الاستمرار من جانب واحد في ملء خزان سد النهضة». ويُعدّ ما تقدّمت به تونس واضحاً أشد الوضوح ولا يحتاج لتأويل أو تفسير أو بحث عن معنى.

 فالذهاب بالقضية لمجلس الأمن لم يكن من الأساس يستهدف أن يقوم المجلس بإصدار قرار فوريّ بإجبار إثيوبيا على التوقف عن استكمال بناء السد, والجلوس لطاولة المفاوضات وإنجاز اتفاق ملزم بينها وبين دولتي المصب, أو أعطاء دولتي المصب الحق في توجيه ضربة عسكرية ضد السدّ في حالة تعنت إثيوبيا ورفضها استئناف المفاوضات, فقد صرّح وزير الخارجية المصري سامح شكري عقب الجلسة بـ «أن الإجراءات التي تتخذها إثيوبيا بشكل أحادي الجانب بإقدامها على البدء في الملء الثاني لسد النهضة دون اتفاق مع دولتي المصب, يمثل تهديداً لسيادة مصر والسودان وتهديداً وجودياً لأكثر من 150 مليون شخص», وأعرب عن تطلع القاهرة إلى العمل مع مجلس الأمن الدولي للاضطلاع بمسؤولياته الدبلوماسية, إذن الذهاب بالقضية لمجلس الأمن هو نوع من التصعيد الدبلوماسي لأعلى مستوى حتى يعرف العالم الخطر المحدق بمصر والسودان ولإبراز التعنت الإثيوبيّ.

وبالتالي لا مجال هنا لتحميل مشروع القرار أكثر مما يحتمل, ولا يجوز التأويل المفرط لنص كلمات الدول الأعضاء في مجلس الأمن سواء الدائمين أو غير الدائمين, فكل كلمات المندوبين الخمسة عشر لا تخرج عن مضمون القرار المقدّم من تونس, وإن اختلفت الكلمات المستخدمة, لكن للأسف الشديد وجدنا جدلاً كبيراً على وسائل الإعلام المختلفة وصل لحد الاشتباك على مواقع التواصل الاجتماعي بين بعض مَن يدّعون أنهم نخب ومنهم من يدّعي أنه محلل سياسي وخبير استراتيجي حول كلمة مندوب روسيا بمجلس الأمن, حيث قام هؤلاء الخبراء بتأويل مفرط لنص الكلمة, في محاولة لتحميلها ما لا تحتمل, واستنطاقها بما لم تنطق, وهجوم غير مبرر على روسيا في محاولة لإيهام الرأي العام المصري بأن روسيا وقفت ضد مصر في مجلس الأمن. وفي الوقت الذي استحوذت كلمة المندوب الروسي على الاهتمام والهجوم لم يتطرّق هؤلاء الخبراء لكلمات باقي الدول والتي تتطابق في مضمونها تماماً مع مضمون كلمة المندوب الروسي.

وفي محاولة التوقف أمام كلمة المندوب الروسيّ التي أثارت كل هذا اللغط، فالرجل أكد في البداية على حق إثيوبيا في عملية التنمية عبر بناء السد, لكنّه أكد أيضاً على حق مصر والسودان في القلق بشأن التبعات السلبية الممكنة لتشغيل السد, وقال لا بديل عن تسوية النزاع سياسياً بمشاركة الدول الثلاث في إطار محتوى اتفاق المبادئ الذي تمّ في الخرطوم 2015, ثم انتقل للكلمة التي تم تأويلها تأويلاً مفرطاً لتُبعِدها عن معناها الحقيقي وهي «التفاهم المتبادل والثقة أمران أساسيّان, أما صبّ الزيت على النار والتهديد باستخدام القوة فأمر يجب منعه وتفاديه, وبرأينا أن التوصل إلى اتفاق حول ملء السد وتشغيله قد يؤدي إلى نزع فتيل التوتر بين الأطراف». هذه الكلمات اعتبرها الخبراء الجهابذة موقفاً معادياً لمصر وداعماً لإثيوبيا, هل كنا ننتظر أن يقول مندوب روسيا أنه مع استخدام القوة؟! وهل عندما رفض التهديد بالقوة قال ذلك وصمت؟! لقد استتبع الجملة بالتأكيد على ضرورة وحتمية تسوية النزاع سياسياً وعبر طاولة المفاوضات وبمرجعية اتفاق المبادئ الذي وقعه الرئيس السيسي في 2015.

وإذا كنّا نتعامل مع جلسة مجلس الأمن بمبدأ المكسب والخسارة فإن الجلسة رابحة بالنسبة لنا, وكلمات مندوبي الدول الأعضاء سواء الدائمين أو غير الدائمين, وفي مقدّمتهم كلمة المندوب الروسي وبعيداً عن أي تأويل مفرط للنص, تصبّ في مصلحتنا ولا تخرج عن مشروع القرار الذي تقدّمت به تونس, ويكفي تأكيده في نهاية كلمته «نتقدم بمقترح ملموس لكل الأطراف المعنية, بما أنها كلها موجودة معنا في نيويورك لماذا لا تقوم وساطة رئيس الاتحاد الأفريقي بعقد مشاورات جانبية حول السد؟ ونشدّد هنا على استعداد روسيا لتقديم المساعدة لحل هذه المشكلة المعقدة فمصر وإثيوبيا والسودان أصدقاء مقربون لنا, ونأمل فعلاً أن يتمكنوا من حل هذه المشاكل, ويتفقوا على أساليب ملء السد والتوصل إلى حلول بتقديم تنازلات».

 لذلك لا بد أن يصمت هؤلاء الخبراء والجهابذة عملاء الأميركي والصهيوني الذين يقدمون تأويلاً مفرطاً للنص يزيفون به وعي الرأي العام ويخلقون عداءات مصطنعة مع دولة صديقة تسعى معنا للوصول لحل سلمي للأزمة, وهذا لا يمنع أن الخيارات الأخرى مفتوحة في حال التعنّت الإثيوبي وإصراره على الإضرار بأمننا القومي المائي, اللهم بلغت اللهم فاشهد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى