أولى

الهري في زمن السوشيال ميديا

 د. محمد سيد أحمد

منذ أعلنت إثيوبيا في العام الماضي عن الملء الأول لسدّ النهضة بشكل منفرد والقضيّة تصاعدت لواجهة الرأي العام، حيث أصبحت هي القضيّة الأهم والأبرز التي يتحدث عنها القاصي والداني، سواء بعلم أو بغير علم، خاصة أننا في عصر السوشيال ميديا التي أصبحت فيه المعلومات غزيرة وغير محقّقة بشكل جيد، حيث ينطبق عليها ما يطلق عليه في التراث الشعبي اختلاط الحابل بالنابل.

وخلال الثلاثة شهور الأخيرة ومع إعلان إثيوبيا عن نيتها للملء الثاني لخزان السد بشكل منفرد أيضاً، ودون الوصول لاتفاق دولي ملزم يحفظ لدولتي المصب حقوقهما التاريخية المشروعة في مياه النيل والقضيّة عادت من جديد لتشغل بال الرأي العام وتشكلت مجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي مهمتها تضليل الرأي العام وتقليبه على قيادته السياسيّة.

وفي ما يتعلق بقلق الرأي العام فهو مشروع خاصة في ظل غياب المعلومات الدقيقة والفنية حول السد ومراحل بنائه وتشغيله والأضرار التي يمكن أن تصيبنا في حالة عدم الوصول لاتفاق دولي ملزم لإثيوبيا يحفظ لنا حصتنا في مياه النيل التي تمثل شريان حياة المصريين، وخلال الشهور الثلاث الأخيرة ظهرت مجموعة من جنرالات السوشيال ميديا أتحفونا بجدل عقيم حول ما يمكن أن يصيبنا من أضرار نتيجة بناء السد وحاولوا إظهار عجز الدولة وقيادتها عن الوصول لاتفاق يحفظ حقوقنا في مياه النيل، وهناك مَن اتهم القيادة السياسيّة ليس بالعجز فقط بل الخيانة وطالبها بالتنحّي عن السلطة وتقديم نفسها للمحاكمة.

 وعندما صعّدت مصر الملف مؤخراً لمجلس الأمن عبر مشروع قرار تقدّمت به تونس الشقيقة العضو غير الدائم في المجلس في محاولة لوضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته في حفظ السلم والأمن الدوليين خرجت علينا الأبواق نفسها لتؤكد عجز مصر وقيادتها على توجيه ضربة عسكرية، ومنهم من بدأ يُصدّر لنا مزيد من الإحباط بأن المجتمع الدولي يقف ضدنا، وبعض القوى العظمى تدعم إثيوبيا، وبالتالي سنعجز عن الوصول لحلّ سلميّ وأيضاً لن نجرؤ عن اتخاذ حلول أخرى.

وفي هذه الأثناء وجدنا من يخرج علينا ليؤكد أنه لا سبيل للحل إلا تفاوض القيادة السياسية مباشرة مع العدو الصهيوني وهو إيحاء بأنّ على مصر أن تقبل بإيصال مياه النيل للأراضي الفلسطينية المحتلة لكي تحل القضية مع إثيوبيا، وهؤلاء الصهاينة يثيرون مزيداً من القلق ويصبّون مزيداً من الزيت على النيران المشتعلة داخل الرأي العام المصري.

وبجانب هؤلاء خرجت مجموعة معادية من جنرالات السوشيال ميديا تتتبع خطوات وتحركات السيد رئيس الجمهورية، وتحاول أن تبرز للرأي العام عدم اكتراث الرئيس بقضية السد. فالرجل يمارس نشاطه في الداخل ويفتتح مشروعات ويقيم مؤتمرات ويمارس نشاطه الرياضي ويركب العجل ويبتسم ويضحك في الوقت الذي يعرض الملف على مجلس الأمن، وهو ما يعني أن الرئيس قد باع القضية ولم يعد يهتم بما سيصيب الأمن القومي المصري من أضرار بالغة نتيجة بناء السد، وهناك أيضاً من بين هؤلاء الجنرالات من حاول تصوير الوضع بأنه قد انتهى وأننا قادمون على مجهول فقد بدأت إثيوبيا في الملء الثاني ويجب علينا نحن أن نحافظ على السد لأن ضربه الآن يعني غرق للسودان ومصر وتدميراً للأخضر واليابس، ويحاول هؤلاء إظهار أنفسهم بالخبراء وأن الدولة بأجهزتها لا تملك المعلومات وقد أضاعت فرصة توجيه ضربة عسكرية بالصبر الزائد على إثيوبيا.

وفي ظلّ هذا اللغط والجدل العقيم وإشعال الفتن ظهر علينا يوم الخميس الماضي السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي أثناء مؤتمر “حياة كريمة” بأحد المشروعات القومية العملاقة لتنمية الريف المصري، وبعد الانتهاء من كلمته المكتوبة ظن البعض أنه يمارس سياسة التجاهل في ما يتعلق بقضية سد النهضة التي أصبحت الهاجس الذي يؤرق جموع المصريين، لكن الرجل وكعادته دائماً قرر أن يتحدث مع شعبه بدون كلمة مكتوبة مسبقاً وعبر حوار ارتجالي من القلب للقلب، فقال في البداية “المساس بأمن مصر القومي خط أحمر، ولا يمكن اجتيازه شاء من شاء وأبى من أبى.. مصر لديها قوة عسكرية تمكنها من حماية مقدراتها وإنفاذ إرادتها.. قبل ما يحصل حاجة لمصر لازم أروّح أنا والجيش المصري”. والرسالة هنا واضحة للعالم أجمع ولجنرالات السوشيال ميديا بأننا لسنا عاجزين عن استخدام بدائل أخرى غير الحل التفاوضي.

 ثم تابع يقول “إن ممارسة الحكمة والجنوح للسلام لا يعني بأي شكل من الأشكال السماح بالمساس بمقدرات هذا الوطن، ولدينا في سبيل الحفاظ عليه خيارات متعددة نقررها طبقا للموقف والظروف”. والحديث هنا يؤكد امتلاك القيادة وأجهزة الدولة السيادية كل المعلومات الخاصة بالسد ومحدد بدقة كل الخيارات المتاحة للحفاظ على أمننا القومي، لكن نحن نتصرّف بحكمة ونحن مَن يحدّد أين ومتى يكون القرار.

ثم واصل الرئيس حديثه لشعبه لكي يطمئنه فقال “أعرف أن هناك قلقاً عاماً بين جموع المصريين، وهو قلق مشروع لتعلق الأمر بالمياه وحياة الناس.. لكن مصر دولة كبرى ولا يليق بنا كمصر أن نقلق.. لكن أقول لكم عيشوا حياتكم وبلاش هري”. والرسالة هنا واضحة فليطمئن الشعب المصري ولا يلتفت إلى جنرالات السوشيال ميديا الذين يحاولون زعزعة ثقة الشعب في قيادته، فالقيادة والجيش يمتلكان كل المعلومات الدقيقة حول السد ولديهم حلول بديلة للحفاظ على الأمن القومي المصري، وهما وحدهما مَن يحدّد الوقت المناسب لاستخدام البدائل، اللهم بلغت اللهم فاشهد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى