مقالات وآراء

الحرب الاقتصادية… كيف نواجهها؟

} منجد شريف

لا شك بأنّ سيناريو الحرب الاقتصادية المفروضة على لبنان، تدرّج فصولاً. فقد شكل حراك 17 تشرين الأوّل 2019 علاقة مموّهة بين مطالب الناس المحقة، وبين الأهداف المغرضة للمشاريع الخارجية.

انطلقت المؤامرة عندما أصبح الدولار سياسياً، ومرهوناً بالعرض والطلب وبحسب المزاج الشعبي والمواقف السياسية، فضلاً عن التطبيقات المتحكَّم بها من جهات معينة تعمل في سياق ممنهج حتى يبلغ الدولار أعلى مستوياته، وذلك للدفع إلى ثورة جياع حقيقية تنقلب على المواقف الوطنية والقومية، إلى المطالبة بأبسط حقوق المواطنة، في وطنٍ تجمّعت عليه كلّ قوى الشر في العالم لثني البعض منه عن مقارعة العدو عند الحدود الجنوبية.

تبدأ قصة لبنان بحدوده المعروفة، بعدما وضعت الحرب العالمية الاولى أوزارها، فكان النسيج الاجتماعي في المتصرفية مكوّناً من الطوائف الرئيسية، وفي مؤتمر الصلح في باريس خيّر اللبنانيون بين حدودهم الحالية أو ضمّ وادي النصارى، فكانت الرغبة المارونية بعدم ضمّ وادي النصارى لمنع تكوين أكثرية أرثوذكسية، فكان لبنان بأقضيته وتنوّعه الطائفي الحالي.

لم يكن معروفاً أنّ الحرب العالمية الأولى كانت مقدّمة، لتجزئة مناطق نفوذ السلطنة العثمانية، فبعيد اندلاع الحرب بسنة أرسلت توصية من قبل أول وزير صهيوني يهودي بريطاني ويُدعى هربرت صموئيل إلى مجلس العموم البريطاني جاء فيها:

«ليس من المناسب الآن إنشاء الوطن القومي، بل تقسيم المنطقة الواقعة تحت نفوذ السلطنة العثمانية ليُصار لاحقاً الى تأمين نواة الدولة ومكوّناتها السكانية واللوجيستية. كانت سايكس بيكو عام ١٩١٦ الترجمة الفعلية لتلك التوصية.

جاءت الحرب العالمية الثانية بمثابة تتويج لـ «الوطن القومي لليهود» بعدما توافرت كلّ عناصره، وأعلنت «دولة إسرائيل» في ١٥ أيار ١٩٤٨، وكانت من أوائل الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة.

شاء القدر ان تكون شمال الحدود الاستعمارية لتلك الدولة المزعومة محاذية للبنان، ومع تطوّر الثورات المناوئة لذلك الكيان الغاصب، تدحرجت المواجهات مع الفلسطنيين وتنوّعت إلى أن حطت رحالها عند الحدود الجنوبية للبنان.

تأثر سكان لبنان في المناطق المحاذية لدولة الاحتلال وصاروا عرضة لكلّ أنواع القصف «الإسرائيلي» الانتقامي، هذا ما أسهَمَ في تكوّن الوعي الوطني القومي والمفهوم الجهادي ضدّ المحتلّ وعربداته، وكان ذلك على يد السيد موسى الصدر، فحملوا السلاح للدفاع عن أنفسهم، بعدما أمعنت آلة القتل «الإسرائيلية» بكلّ السكان دون تمييز، فكانت أفواج المقاومة اللبنانية أمل الى جانب الحزب السوري القومي الاجتماعي والعديد من الأحزاب والقوى المقاومة، وفي مرحلة لاحقة مع حزب الله. ومع تطوّر الصراع العربي «الإسرائيلي»، وتَوقيع مصر اتفاقية «كامب ديفيد»، أصبحت الحرب الكلاسيكية مع «إسرائيل» استحالة، فتحوّلت المواجهة مع «إسرائيل» إلى المقاومين، الذين تلقوا دعماً كبيراً من الدول الرافضة للغطرسة الأميركية و»الإسرائيلية»، ومَدَّتهم تلك الدول بكلّ الإمكانات العسكرية واللوجيستية والتدريبات والسلاح، الى أن كسرت هيبة «إسرائيل» تحت وطأة ضربات المقاومة، وسقطت مقولة الجيش الذي لا يُقهر، بينما المطلوب أن تكون «إسرائيل» هي الأقوى، وفي المقابل تكون الدول العربية ضعيفة ومتحكماً بها وبتسلّحها وبكلّ قدراتها، هذا وفقاً لمقرّرات مؤتمر كامبل بنرمان، بحيث تكون «إسرائيل» وكيل الاستعمار بعد خروجه.

تلك المعادلة التي أرستها المعارك المتتالية مع العدو، في توازن الردع الاستراتيجي، جعلت «إسرائيل» بكلّ قدراتها العسكرية، أمام خيار حرب من نوع آخر، لأنّ الحرب العسكرية صارت محفوفة بمخاطر الانهزام وفقدان الهيبة، فكانت الحرب الاقتصادية على سورية ولبنان، كما على كلّ بلد حرّ في هذا العالم.

انها الحرب الاقتصادية، تقودها منصات الدولار المشبوهة، فترفعه وتخفضه في لعبةً قذرة لضرب العملة الوطنية بعدما ساهم فساد السلطة منذ ثلاثين عاماً في تشريع الباب أمام هكذا مؤامرة، يُضاف إليها مفاعيل بدعة الثورة في 17 تشرين الأوّل، والتي كان هدفها تعطيل مقاصة المصارف لحصر الدولار في السوق الموازي والتحكم به بمنصات مشبوهة لتضييق الخناق شيئاً فشيئاً على كلّ اللبنانيين عسى من خلال ذلك ان تحقق في الحرب الاقتصادية ما عجزت عنه في الحروب العسكرية.

تلك الحرب المستترة دفعت الغالبية من المواطنين إلى ادّخار كلّ ما لديهم من الدولارات، وعدم تحويلها الى العملة الوطنية إلا عند الضرورة، لأنّ التلاعب المشبوه لتلك المنصات جعلت الجميع في حالة تيه بين البيع الشراء، وعليه صار تحليق الدولار غير مرتبط بقاعدة العرض والطلب الحقيقية، بل عرض وطلب اضطراري بسبب التفلت في الاستقرار النقدي، وما زالت تلك المنصات ترفع في سعر الدولار لتعكس غلاءً فاحشاً قد يكون نواةً لخلق ثورة جياع حقيقية تطيح بكلّ منجزات الأعوام المنصرمة على صعيد المواجهات العسكرية.

وهنا السؤال هل ستستطيع تلك المؤامرة أن تأخذ بالاقتصاد ما عجزت عنه بالعسكر؟! الجواب مرهون بكيفية مواجهة تلك الحرب على صعيد المستهدفين بها بصورة مباشرة، وما يمكن أن يوفروه من مقوّمات الصمود وقدرة الاحتمال عند اللبنانيين الشرفاء في هذا الوطن، الذين بلغوا حداً من الاستنزاف المالي تبخرت معه كلّ آمالهم وأحلامهم المستقبلية، وربما إذا ما ظلت الأمور على هذه الشاكلة تتبخر العزة والكرامة لديهم، فلكلّ شيء حدود، وكما جاء في وصية الإمام علي لابنه محمد بن الحنفية:

يا بني أخاف عليك الفقر لأنّ الفقر منقصة للدين، مدهشة للعقل، داعية للمقت، والمقت تعني هنا الكره والبغضاء.

إذن الكلّ يعلم أننا بمواجهة حرباً اقتصادية، بل هي غزو، وإذا لم تستدركها الجهات المستهدفة بالكثير من التدابير الضرورية والطارئة، فسوف تحقق تلك الحرب أهدافها ومعها يتلاشى كلّ ما تحقق من انتصارات ومنجزات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى