أولى

صندوق النقد والبنك الدوليّين وإفقار الشعوب…!

 د. محمد سيد أحمد

ليست المرة الأولى ولا أعتقد أنها ستكون الأخيرة التي أكتب فيها عن صندوق النقد والبنك الدوليّين، تلك الأدوات الاستعمارية التي اخترعها النظام الرأسمالي الفاشي المنحط على حدّ تعبير الكاتب الصحافي الكبير أحمد الجمال بهدف إفقار شعوب العالم الثالث، فمنذ انتهاء الاستعمار العسكري التقليدي في منتصف القرن العشرين على يد حركات التحرر الوطني في دول العالم الثالث، والدول والإمبراطوريات الاستعمارية القديمة والحديثة تحاول البحث عن آليات استعمارية جديدة وغير تقليدية، وقد تفتق ذهن الغزاة إلى استحداث آلية استعمارية اقتصادية جديدة وغير مباشرة وقد تمثلت هذه الآلية في صندوق النقد والبنك الدوليّين وهما بديل لصندوق الدين المعروف في ظلّ الامبراطوريتين الاستعماريتين الانجليزية والفرنسية في القرن التاسع عشر، ولمصر تجربة مريرة مع الصندوق القديم حين استدان منه الخديوي اسماعيل وكان بداية للتدخل الأجنبي في شؤون مصر ومهد للغزو والاحتلال البريطاني في عام 1882.

 ثم كانت لنا تجربة أخرى مع البنك الدولي الأداة الاستعمارية الجديدة مع بداية ثورة 23 يوليو/ تموز 1952 حين أراد الرئيس جمال عبد الناصر بناء السد العالي ولم تكن هناك في خزانة الدولة المصرية أموال تسمح بتمويل عملية البناء، وكان المطلوب في حينه 200 مليون دولار، فلجأ عبد الناصر للبنك الدولي، الذي بدأ على الفور في فرض شروطه على عبد الناصر ومصر، وكانت النتيجة رفض جمال عبد الناصر لشروط البنك الدولي، وقام بفضحهم وكشفهم كأداة استعمارية جديدة حيث قال:

«نطلب من البنك الدولي أن يوقع معنا الاتفاق النهائي لبناء السد العالي، عشان يدينا 200 مليون دولار، فيفرض البنك شروطه، ونكون أمام حاجة من الاثنين، إما نرفض هذه الشروط فيقول مفيش قرض، أو نضطر للخضوع والاستسلام لشروط البنك الدولي فـ يبعث واحد يقعد مطرح وزير المالية، ويبعث واحد يقعد مطرح وزير التجارة، ويبعث واحد يقعد مطرحى، وإحنا نبقى قاعدين في هذا البلد ما نعملش حاجة إلا ما ناخد منهم التعليمات وناخد منهم الأوامر».

هذا هو نص كلام جمال عبد الناصر عن تجربته مع البنك الدولي الأداة الاستعمارية الجديدة التي استحدثتها الإمبريالية العالمية بعد نجاح مجتمعات العالم الثالث من تحقيق التحرر الوطني، وكان ردّ جمال قاطعاً لن نخضع ولن نستسلم ولن نفرط في استقلالنا الوطني تحت أي ضغط، وقد كان وبالفعل نجح في بناء السد العالي بعيداً عن البنك الدولي وبعيداً عن الاستعمار الجديد.

ومع مطلع تسعينيات القرن العشرين وبعد عشر سنوات من حكم مبارك، وبعد ما يقرب من عقد ونصف العقد من تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي المزعومة التي فرضتها الامبراطورية الاستعمارية الجديدة المعروفة باسم الولايات المتحدة الأميركية على السادات الذي صدر لنا مقولته الشهيرة أنّ 99 % من أوراق اللعبة في يد الأميركان لكي يوهم الشعب بأنه لا يمكن الخروج من حظيرة الطاعة الأميركية، ومنذ ذلك التاريخ والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للغالبية العظمى من المصريين في تدهور وانهيار، والاقتصاد المصري يتعرّض لهزات كبيرة، وفي إطار سعي مبارك للبحث عن حلّ للمشكلة الاقتصادية المتفاقمة وفي ظل ما أطلق عليه الاصلاح الاقتصادي، والتكيّف الهيكلي، وجدنا الأداة الاستعمارية المعروفة بصندوق النقد الدولي تفرض وجودها وإرادتها وشروطها على مبارك وحكوماته المتتالية، وما رفضه عبد الناصر قبله بذل وهو انّ السادات ثم مبارك، حيث بدأت عملية تصفية وبيع القطاع العام، وفرض ضرائب متعددة على المواطن المصري الفقير، وتمّ تعويم الجنيه حيث انخفضت قيمته عدة مرات أمام الدولار، وكانت نتيجة تنفيذ مبارك لروشتة الإصلاح الاقتصادي المفروضة من الصندوق هو مزيد من الديون، ومزيد من المعاناة لجموع المصريين، ومزيد من الفقر، لذلك أطلق بعض المصريين على الصندوق مسمّى صندوق الفقر الدولي.

ونتيجة المعاناة الاقتصادية والاجتماعية للغالبية العظمى من المصريين خرجوا ثائرين على مبارك وحكومته في 25 يناير 2011، كما خرجوا من قبل في 18 و19 يناير 1977 على السادات، وانتظر المصريون تغيير السياسات الاقتصادية والاجتماعية، لكننا وجدنا محمد مرسي وجماعته الذين وعدو جموع الفقراء بالنهضة يلجئون إلى الصندوق ذاته الذى أحدث الفقر وعمقه داخل المجتمع المصري، وثار المصريون على مرسي وجماعته وصندوق النقد الدولي في 30 يونيو/ حزيران 2013، وعاد المصريون من جديد ينتظرون تغيير السياسات الاقتصادية والاجتماعية لكن الحكومات المتتالية صدمتهم من جديد عدة مرات حين لجأت إلى الصندوق لطلب قروض جديدة، وهو ما جعل الصندوق يعود من جديد ليفرض شروطه الإفقارية على شعبنا المصري، فيطالب بالتخلص من بقايا القطاع العام، ويفرض أشكال جديدة ومتنوعة من الضرائب على الفقراء من أبناء شعبنا، ويتم تعويم الجنيه المصري بشكل مفاجئ فيلتهم المدخرات البسيطة لأبناء الطبقة الوسطى فيلتحقوا بالفقراء، وأخيراً يطالب برفع الدعم حتى عن رغيف الخبز أبسط حقوق الفقراء في هذا الوطن، وعلى الرغم من وصول الدين الخارجي والداخلي لمستويات غير مسبوقة في التاريخ، يشيد الصندوق ببرامج الإصلاح الاقتصادي التي تنتهجها مصر، والسبب معروف وهو اتباع الروشتة الإفقارية للصندوق، لذلك نؤكد أنّ أي محاولة للنهوض والتنمية المستقلة لا بدّ أن تكون بعيدة كل البعد عن أدوات إفقار الشعوب المعروفة باسم صندوق النقد والبنك الدوليين، اللهم بلغت اللهم فاشهد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى