مرويات قومية

الأمين الدكتور منير خوري يستمرّ مضيئاً في تاريخ الحزب

من بين أكثر الأمناء الذين أحببت، وكان له حضوره اللافت، طالباً، واستاذاً جامعياً، رفيقاً فأميناً عضواً في المجلس الأعلى فرئيساً له، وعرف الاسر لمشاركته في الثورة الانقلابية فكان مجلياً في ثباته وصموده وتفانيه، هو الأمين الدكتور منير خوري.

رافقته كثيراً في سنوات التي تلت خروجه من الاسر عام 1969 وكنت لا انقطع عن زيارته في منزله عندما اشتد عليه المرض، ثم اتردّد بعد رحيله لتفقد الفاضلة عقيلته نبيلة صليبا(1) الى ان فارقت الحياة.

الأمين د. منير خوري حالة مثالية في حزبنا يجب ان تعرفها أجيالنا، وتبقى عنواناً لافتاً في مآثر التجسيد المناقبي في حزبنا.

لتاريخه، ورغم مرور سنوات عديدة على رحيله (29 حزيران 2014) ما زلت اذكره بكثير من المحبة واستعيد بتقدير رحيله.

من كتابه سفينة حياتي اخترت التالي:

اطلالتي على الحركة القومية الاجتماعية:

« اول مرة سمعت فيها بالحزب في العام 1933 حين كان شقيقي الأكبر، نقولا(2)، يتحدث عن نشاط ونهضة لحزب سرّي. ويستفيض عن هذا الحزب بتكتم شديد وحماسة أشد، فدفعني فضولي، وكنتُ لم اتجاوز الثانية عشرة من عمري، الى التساؤل ما هذا التكتم الشديد من جهة، وهذه الحماسة من جهة أخرى، وكان الجواب: «بكرا بتكبر يا منير وبتفهم أكثر».

«لم يشفني هذا الجواب فأصرّيت على إيضاح، فجاء الجواب أقلّ غموضاً من الأول: «يا منير أنت تعرف أننا محكومون من دولة مستعمرة اسمها فرنسا». وأخذ يشرح لي كيف ان هذه الدولة شاركت في تقسيم وطننا السوري الى دويلات صغيرة: لبنان وسورية وفلسطين وشرق الأردن، ولم يذكر لي العراق لأنّ العراق لم يرد حينها في خريطة الحزب السياسية. كان غالباً ما يسترسل في كلامه دون ان يعي أنه بدأ يكشف السر، الذي يتكتم حوله. ومن جملة زلات لسانه انه ذات مرة راح يخبرني بلذة وشغف عن انتمائه الى حركة سرية هدفها الخلاص من هذا الاستعمار وتوحيد هذه الامة المقسّمة.

«لا يمكن للطفل الذي كنته ان يستوعب كل تلك الاقوال من اخي نقولا، واعترف بصدق انني لا ادري كيف أثر فيّ ذلك الموضوع، ولماذا ؟ منذ تلك اللحظات بدأت أشعر برغبة ملحة وقوية للتعرّف والانخراط في تلك الحركة السرية.

كنت تلميذاً صغيراً في مدرسة طرابلس، ويبدو ان النشاط الطالبي فيها خاصة، وفي مدينة طرابلس عامة، كان مؤاتياً لتغذية تلك الروح الوطنية. كما، كان لتربيتي البيتية والعائلية المتحررة إضافة الى الأجواء المدرسية دور كبير في دفعي للإنخراط بعد سنوات معدودة في حركة نشيطة كالحركة السورية القومية الاجتماعية. لا تزال الصورة واضحة أمامي، عام تخرجي من المدرسة سنة 1936، كيف كان الشباب الطرابلسي يعجّ بالنشاط والحماسة الحزبيين، إذ كنا لا نسمع سوى التحيات السورية القومية في المدارس والشوارع والمقاهي، وبصوت عالٍ متحدّ تحيا سورية، «تحيا سورية» وقت لم يمض على انكشاف أمر الحزب سوى عام ونيّف.

«برهنت السنون ان تلك الهتافات والنداءات لم تكن منطلقة كلياً من «سورية» مؤسس الحزب وزعيمه أنطون سعاده بقدر ما كانت منطلقة من سورية المعاصرة لا من سورية التاريخية. كانت الوحدة السورية التي ينادي بها الطرابلسيون قبل ظهور الحزب تختلف عن سورية الحضارية التي سعى ويسعى إليها حزب أنطون سعاده. هذا ما كشفته وأثبتته أحداث الخمسينات عندما طغت موجة العروبة الناصرية على معظم الدول العربية خاصة، وجرفت معها عدداً كبيراً من أفراد الحزب وضمتهم إليها. وبرغم من هذا التآكل في جسم الحزب، فإنه ما اندلعت الحرب العالمية الثانية حتى كان اسم أنطون سعاده يحتلّ الساحة الوطنية في لبنان والشام وفلسطين والأردن وضجّ منه الفرنسيون وأدخلوه السجن مراراً، ثم أجبروه بطرق غير مباشرة على نفي ذاته عام 1938 الى أميركا الجنوبية.

في صيف 1940 التقيتُ لأول مرة بشاب يدعى أسد الأشقر في «رحبة»، القرية المجاورة لـ»جبرائيل» وبلدة زوجته السيدة رؤوفة. كان ذلك الشاب في أوج شبابه يتحدث مع بعض أقرباء زوجته بحرية عن الحزب وبحرارة وإيمان فائقين أثرا فيّ وفي بعض أترابي في القريتين «جبرائيل» و «رحبة». استمرت اللقاءات بيننا وبين «الأستاذ أسد» أياماً نستمع إليه، نسأله ويجيبنا حتى «استوت الطبخة» كما يقول المثل العامي. والحقيقة ان الطبخة لي كانت «شبه مستوية» لا تحتاج الى أكثر من جذوة خفيفة لتنضج.

« الخلاصة، انتهت تلك اللقاءات بقسمنا اليمين الحزبي أمامه، وبحضور حبيب سكاف ونقولا يزبك، رحمهما الله.

شكّل لي القسم منطلقاً ومنعطفاً تاريخيين لحياتي كلها، كنت في مطلع العشرينات من العمر عندما أقسمت وبدأت فوراً خوض معركة الحزب والنضال من اجل تحقيق أهدافه. وهنا لا بدّ من الاعتراف ان نشاطي الحزبي كان وما زال الى حد بعيد طوباوياً، رسولياً في مثاليته، أشدد فيه على المناقب والممارسة الخلقية أكثر مما على العقيدة الفلسفية التي لم أكن أعيها تماماً كما أعيها اليوم. أخذت كثيراً بما كتبه سعاده عن الانسان المجتمع «وبناء» الانسان الجديد والقضاء على الـ «أنا» المتجذرة في نفوس الشعب، إضافة الى تشديده على رفض الطائفية وإلغائها، الى ما هنالك من نظرات مجتمعية إصلاحية، هذه الأهداف المثالية التي تحدث عنها الزعيم في الكثير من كتاباته ومحاضراته وبقي مصراً عليها طوال حياته التي لم تدم طويلاً.

« كنت وبحكم تربيتي البيتية مأخوذاً بتشديد سعاده على بناء المجتمع العلماني – العلمي، وايمانه الشديد بما يكمن في وطنه السوري من «حق وخير وجمال». غير ان ما صدمني وآلمني، وما زال، هو ان الحزب عبر نضاله الطويل لم يعر هذه الأهداف، والتي تتوخّى خصوصاً بناء «الانسان الجديد» الأهمية التي تستحق، فالانسان الجديد الذي توخاه سعاده يشكل في رأيي المنطلق الأساسي بل الصخرة الأساسية في البنية التحتية لكل مجتمع يبغي الحياة الحرة الكريمة. أعود فأقول انّ طوباويتي هذه لسوء الحظ كانت وما زالت سيف ذو حدّين، لانّ العديد من زملائي القياديين اعتبروا هذه الطوباوية الصادقة نوعاً من «التزمّت الساذج» ولهذا كانت الهوّة السحيقة تتسع بيني وبين هؤلاء «القياديين» وتسبّب لي باستمرار شعوراً بالمرارة المؤلمة. لقد حرصت دوماً على الوحدة الروحية بيننا، وذلك بتجاهل سلوكهم هذا نحوي مطبقاً قول ابي العلاء: «ولما رأيت الجهل في الناس فاشياً تجاهلت حتى ظنّ اني جاهل».

«فوجئ بواب البناية عندما اعلمته أنني معتقل ورجوته ان يخبر زوجتي بهدوء وروية، وهي تتدبّر الأمر.

في الطريق من باب بيتي وحتى مدخل الثكنة كانت الأفكار تنهمر في رأسي مثل شتاء قارس. سألت نفسي: هل بت هارباً من الظلم او اللاظلم، من العدالة او اللاعدالة؟ وكانت الأمكنة والشوارع الاليفة تبدو غريبة ومقفرة كأنني اراها للمرة الأولى. ماذا بعد؟ والى أين؟ وأي مصير ستواجهه عائلتي؟ اوصلني رجال الامن العام الى ثكنة الأمير بشير، وهناك تسلّمتني الشعبة الثانية حيث طلب مني ان اخلع حزام (قشاط) البنطلون، والأمر أثار حفيظتي وحاولت الاحتجاج منفعلاً. فما كان أحد افراد شرطة الشعبة الثانية إلا ان تقدم مني مهدداً بقبضة يده على وجهي قائلاً: إفعل ما يطلب منك وإلا… ، وأخيراً فتشوا جيوبي وأخذوا ساعة يدي، وقلم الحبر من جيبي، ولم يعفوا عن محفظة نقودي فأخذوا جميع الأوراق الشخصية التي كانت في داخلها، ثم تصفحوا ما في حوزتي من أوراق نقدية دون ان يستولوا على أي منها.

بعد هذا «الاستقبال الرسمي» اودعوني أحد «القواويش» مع حوالي أربعين موقوفاً، تعرّفت على عدد غير قليل منهم. أما ما لفتني فور دخولي ذلك القاووش فهو شاب محطّم الجسد، يسيل الدم والقيح من فمه ورأسه وعينيه وأذنيه، مشهد لن أنساه طيلة حياتي .

دون ان يتفوّه بكلمة آه او أي نوع من أنواع التذمر. ولما سألت بعض الشباب، من هذا الذي أراه؟ ابتسم احدهم، وقد عرفني، ثم قال هامساً: بعد ما شفت شي يا حضرة الأمين، هذا المشلول الذي تراه أمام عينيك الآن هو واحد من العشرات الذين ينالون حصتهم من هذه الوحشية يومياً». كان ذلك الشاب، شبه المشلول، هو جبران الأطرش(3) الذي اشتهر بطاقته وقوته على تحمل العذاب بصبر وجلد لا مثيل لهما.

أمضيت تلك الليلة في رفقة أولئك الشباب الذين حاولوا التخفيف عني مما أصابني من أثر الصدمة في اليوم الأول لدخولي السجن.

لحسن الحظ كانت زوجتي قد تمكنت، فور علمها بإعتقالي بالاتصال بأحد اقربائي من الضباط العسكريين المقربين من العهد الشهابي، فأبلغ قادة الثكنة ان يحسنوا معاملتي بسبب المرض ومعاناتي قرحة المعدة. خلصني هذا الاتصال من الكثير مما كان قد يصيبني من ضرب وإهانة وتعذيب جسدي ومعنوي. إلا ان النوم على البلاط في غرفة عادية، باردة طوال الأشهر الأولى من السجن، أدى الى إصابة ركبتي بالداء العصبي الذي ما زالت اعراضه انتفاضات مستمرة في ركبتيّ اثناء النوم حتى يومنا هذا.

بعد ذلك – المشهد الصدمة، تعودت مع الأيام التعايش مع ما كان يحدث في تلك الثكنة العسكرية من مجازر لم أكن أحلم بوجودها في عالم يدعي الاصالة في حضارته. علمت في ما بعد ان تلك الحملة المسعورة، شملت عشرات الألوف من القوميين وغير القوميين المتعاطفين مع الحزب، حتى اضطرت السلطات الى توزيعهم في أماكن متعددة من العاصمة بيروت ومنها ثكنة الفياضية، والمدينة الرياضية التي كانت محشوة بالمعتقلين: مواطنين وغير مواطنين، غرباء وأجانب».

* * *

كتب صدرت للمؤلف

«الواقع والمصير» – نقد وتحليل سوسيولوجي للأزمة اللبنانية والحضارة والنفط والثروة – عن «دار فكر»، (1982)

«ما هي علة لبنان»، بالانكليزية – عن دار الحمراء، (1990)

«ما هي علة لبنان»، بالعربية – عن دار الحمراء، (1990)

* * *

الأمين د. منير خوري في سطور

منير خوري أستاذ وباحث. نال شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة كورنيل – نيويورك.

له مؤلفات ودراسات عديدة ومتنوعة في علم الاجتماع بالعربية والإنكليزية.

من رواد التنمية الريفية في لبنان وعمل في الحقلين التربوي والاجتماعي.

شارك في عشرات المؤتمرات الدولية والإقليمية والمحلية المتعلقة بالانعاش الريفي ومشاكل المسنين والشباب.

عُيّن استاذاً مساعداً في علم الاجتماع والتربية في الجامعة الأميركية في بيروت 1956 – 1961.

عمل خبيراً إقليمياً للأمم المتحدة في حقل التنمية الاجتماعية والريفية عام 1961 – 1962.

كان عضواً في المجلس الأعلى للحزب السوري القومي الاجتماعي الذي وافق على المحاولة الانقلابية ليل 1961 – 1962  وحكم عليه بالسجن لثماني سنوات. كما ترأس المجلس الأعلى لدورتين وشغل منصب العضوية لثلاث دورات. وشارك في رئاسة الحزب مع الأمين عصام المحايري.

رأس قسم العلوم الاجتماعية في كلية بيروت الجامعية (الجامعة اللبنانية الأميركية) (1970 – 1977 و 1986 – 1988).

استمر في التعليم الجامعي حتى تقاعده في العام 1995.

* * *

هوامش:

نبيلة صليبا: عرفتها في ستينات القرن الماضي عندما كنت أزور عائلة الأمين جبران جريج، فألتقي الفاضلة نبيلة وبناتها الصغيرات، كما التقي أولاد الأمين جبران: وسيم، إيمان ومنى. آمل ان أتمكن من الكتابة عنهما.

نقولا خوري: التقيت به في البرازيل. حدثني الأمين منير ان شقيقه الرفيق نقولا كان يحدثه عن النشاط الذي كنت أقوم به في فترة توليّ مسؤولية العمل الحزبي في البرازيل.

جبران الأطرش: من مناضلي الحزب. مراجعة النبذة المعممة عنه على موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى