مقالات وآراء

غياب الدولة يعيد الشعب إلى «الزمن الجميل»

} علي بدر الدين

يبدو أنّ لقاء بعبدا الثالث عشر بين الرئيسين، كشف المستور المعلوم حول تأليف الحكومة الموعودة، الذي بدأ يتبخر وينخفض منسوب تفاؤله المصطنع تدريجياً، ويتراجع إطلاق الوعود التي كانت تضخ نفاقاً وكلاماً لا قيمة لهما ولا فائدة منهما، ولا يعوّل عليهما، وقد «ذاب الثلج وبان المرج «ونضح وعاء التأليف والمؤلفين بما فيه الكفاية، وبلغ الحقيقة المرة كالعلقم، والتي يتجرّعها الشعب غصباً عنه، بحكم فرض الأمر الواقع السياسي والسلطوي والتحاصصي، علّ ذلك يحفزه على الخروج من صمته، وفكّ عقود رهن عمره وصوته وماضيه وحاضره مع أمراء السلطة والطوائف والمذاهب والمصالح، ويتحرّر من عبودية مزمنة قاتلة، أوصلته فعلاً إلى الجحيم وجهنم وبئس المصير.

لقاءات بعبدا القصيرة جداً بين الرئيسين التي لا يستغرق اللقاء الواحد منها أكثر من ثلاثين دقيقة في أحسن الأحوال، توحي بما لا يبقي مجالاً للشك، انّ ملف تأليف الحكومة تمّ سحبه من التداول ولا يستحق كل هذا الوقت والعناء، ولكن لا بدّ من استمرار العبث فيه واعتماده شماعة للتجاذب ولإشغال الشعب، لاستكمال فصول المسرحية الحكومية برضى وإخراج منظومة السلطة السياسية الحاكمة، التي تدرك جيداً أنها فاقدة الأهلية والقرار والدور في عملية التأليف وهي لزوم ما لا يلزم، ولا مكان لها فيها، أو أقله لم تعد من الأولويات بالنسبة لها، لأنّ قرار التأليف هو خارج حدود الوطن، ومؤشراته واضحة لا تحتاج كثيراً من البحث والتمحيص والأدلة.

كل ما هو مطلوب من هذه المنظومة السلطوية تمديد الوقت والهاء الشعب وجرّه الى مزيد من الأزمات، وإغراقه في البحث عن احتياجاته المعدومة والمصادرة والمحتكرة من المافيات وتجار الجشع، ومن أدواتها اختصار وقت اللقاءات وتطويلها وتضخيم الجدل القائم داخلها وخارجها، وتكبير حجم الخلاف على الحصص والحقائب والأسماء وتظهيره الى الشعب الذي لم يعد يعنيه تأليف الحكومة، لأنه وصل إلى قناعة تامة بأنها لن تولد على أيدي هذه السلطة الحاكمة التي تخلت عن الوطن والشعب خدمة لمصالحها وامتيازاتها، ولا تزال تمارس سياسة «اللفّ والدوران» وتقاسم الأدوار والتحايل والتلاعب وشراء الوقت، بعد أن فقدت السيطرة على الإمساك بقرار التصرف والتأليف، وانعدمت قدرتها على حلّ أيّ عقدة كبيرة كانت أو صغيرة من أمام عربته، بل على العكس تماماً، ساهمت بزيادة الأمور تعقيداً وأطاحت عن قصد وسابق إصرار وتصميم بكلّ ما تمّ «الاتفاق» عليه شكلاً ومضموناً، وأعادت الوضع إلى المربع الأول، واللقاء الأول، إمعاناً منها بتقطيع الوقت، وتأكيداً على أن لا ولادة للحكومة رغم الإيحاء بالمخاضات العسيرة التي تعرّضت لها لأنّ حملها مغلف بالوهم والتكاذب.

بات من المؤكد والثابت، انّ معظم هذه المنظومة الحاكمة يرغب او يريد تأليف الحكومة، ولكلّ فريق سياسي مصلحته وأسبابه واعتباراته لعدم وجود حكومة في هذه المرحلة، لا سيما أنّ البلد عائم على كمّ كبير من الأزمات والمشكلات الضخمة التي لا تعدّ ولا تحصى، ولا علاج لها او حلّ، والكلّ يهرب من المواجهة الصعبة، ويرمي حمولة كلفتها والأعباء على الآخر، مع انّ الجميع تشارك في الفساد والمحاصصة والنهب والاحتكار، وفي إفقار الناس وتجويعهم وإذلالهم وسوقهم كأنهم قطعان غنم، لا يصلحون إلا للذبح وسلخ جلودهم، وبعد أن «أكلوا لحمهم ورموا عظامهم» تخلوا عنهم للمجهول، ليتحوّلوا إلى فريسة سهلة للوحوش البشرية الكاسرة، ولغدرات الزمان والمكان والفوضى والفلتان وغياب الدولة ومؤسّساتها وأجهزتها، وليتقاتلوا ويتصارعوا على محطات الوقود والصيدليات والأفران، وكأن المطلوب إغراقهم في مشاكلهم، لينسوا انّ هناك طبقة سياسية ومالية حاكمة قضت عليهم وعلى أحلامهم ومستقبل أجيالهم.

الأنكى أنّ غياب الدولة فتح المجال، لبعض «الشبيحة» وأصحاب النفوذ، للتسيّد وتشكيل اللجان والتحكم بمصير العباد من دون وجه حق، ومن دون الاحتكام إليهم، وتحوّلوا بين ليلة وضحاها، إلى أمر واقع وعبء جديدين على هذا الشعب، يبتدعون له الإجراءات ويصدرون القرارات، وآخرها إخضاعهم للحصول على «بون» يتيح له تعبئة البنزين، وعلى المواطن الوقوف في طوابير المحطات، وطوابير الحصول على «البون». وحتماً فإنّ سياسة اعتماد «البون» سوف تستمرّ وتتمدّد لتفرض وجودها على المازوت والغاز المنزلي والأفران والصيدليات وغيرها.

في المحصلة، بات الشعب اللبناني بأكمله من دون غطاء رسمي بسبب غياب الدولة التي على ما يبدو أنها تخلت عن دورها ومسؤولياتها، وأعادته إلى «الزمن الجميل» وإلى ما يشبه «الحكم الذاتي» الذي كان سائداً إبان حرب ١٩٧٥ وما بعدها بسنوات، بذريعة تسهيل أموره وتأمين احتياجاته وتحصيل «حقوقه» و»الشاطر بشطارته»، يعني رجع به الزمن ٤٥ سنة إلى الوراء، والفضل في ذلك يعود إلى أمراء الطوائف والمذاهب والمصالح والحرب والسلم، بالتكاتف والتضامن والتحاصص مع معظم الشعب الذي لا يزال قابعاً في أحضان ومصالح هؤلاء الأمراء، وأتقن لغتهم و»تثقف» من فسادهم، وسكت على ما اقترفوه بحقه ولا يزالون يعيثون في الوطن فساداً وجشعاً ونفاقاً ونهباً.

لم يتعلم هذا الشعب الذي لا يزال تابعاً وقابعاً ومرتهناً، من تجارب الشعوب التي سبقته، عله يجد فيها خلاصه من الطبقة الحاكمة، وإنقاذ نفسه من الغرق ولو تعلق بقشة. هنا تحضرني، حكاية حصلت خلال الحكم العثماني تقول «انّ سفينة شحن أبحرت من اسطنبول إلى ميناء أمّ القصر في العراق وعلى متنها عدد كبير من البغال لصالح الجيش العثماني، وكان العلف آنذاك شحيحاً، ما فرض على المسؤول عن البغال إطعامهم مرة واحدة في اليوم، بأمر من الضابط المسؤول الذي يعطي الإشارة بدقّ ما يُسمّى «الدودك»، وقد اعتادت البغال على الصوت الصادر منه، قبل وصول العلف الى المعالف، وبما أنّ التكرار يعلم… البغال، فباتت تشعر بالفرح وتنعم بالهدوء لأنّ العلف آت.

ومن سوء حظ البغال انّ العلف نفذ، وقد شعرت بالجوع ولم تسمع دق الدودك، فهاجت وماجت وثارت وكادت أن تحطم أرضية السفينة، وعرف القبطان بما يحصل وأدرك أنه قد يشكل خطراً على الجميع، فأمر الضابط بدق الدودك، وسرعان ما هدأت البغال لأنها كما اعتادت توقعت أنّ العلف آتٍ، وهكذا استمرت مسرحية دق الدودك حتى وصلت السفينة إلى وجهتها».

هذا ما ينطبق تماماً على واقع حال البلد المنكوب، فكلما تحرك الشعب للمطالبة بحقوقه ورفع كابوس الإهمال والحرمان والفقر والجوع والبطالة عنه، تبتدع السلطة الحاكمة افتعال أزمة أو مشكلة أو خلافاً، او تصدر قراراً تخديرياً أو ترهيبياً او ترغيبياً، فيخمد الشعب ويهدأ وينتظر الفرج الذي لا يأتي أبداً، وهكذا تستمرّ المسرحية الهزلية على هذا الشعب، وتحقق المنظومة السياسية الحاكمة مبتغاها وأهدافها من دون «شوشرة».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى