مقالات وآراء

«نجاح» قمة بغداد… لم يكن مطلوباً أكثر

} روزانا رمّال

لم يكن الخلاف السعودي ـ الإيراني عادياً ولا عرضياً طيلة السنوات الماضية، ولم تكن تطورات المنطقة سوى ترجمة لهذا الخلاف العريض الذي كشف عن تباعد غير مسبوق ترجم حروب محاور وخوض تحديات استراتيجية ظهر أقصاها في اليمن ومن قبلها وبعدها العراق وما بينهما مصالح تبدأ في لبنان ولا تنتهي في محطات التغيير عشية أحداث عام 2011 كلّ بحسب أجندته من سورية ومصر وحتى البحرين وغيرها من الأجندات لكلّ جهة، والتي أدّت لقطع العلاقات ولاشتداد المواقف وتصاعدها حتى صار الخلاف أكبر وأعمق ومصدراً لتجذر الانقسام في المنطقة بعد أن ظهرت اصطفافات عمودية واضحة.

قمة بغداد التي عقدت برئاسة رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي، وجمعت من خلالها دولاً عربية وخليجية يُضاف إليها إيران وتركيا وفرنسا كضيف شرف برئاسة إيمانويل ماكرون الذي استغلّ المناسبة لإجراء زيارة تاريخية للبلاد، كشفت الكثير مما لم يكن مطروحاً على مستوى البحث وتحديداً على مستوى اللقاء السعودي الإيراني للمرة الأولى بشكل علني على أرض العراق التي سبق واستضافت جلسات لوفود من الطرفين، بالتالي شكلت قمة بغداد أول الاجتماعات المشتركة «العلنية» منذ أن سرّبت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية قبل أشهر خبر اللقاءات من دون أن يحصل أيّ تأكيد رسمي، إلا أنّ هذه القمة أتت لتؤكد هذا القبول المستجدّ لتقاسم الهواجس وربما السياسات رغم الخلافات.

الولايات المتحدة الحاضر الغائب في هذه القمة والتي لم يحضر فيها تمثيل أميركي رفيع المستوى على شكل ضيوف وهو ما يحصل غالباً في قمم عالمية عديدة تعنى بملفات استراتيجية، فكيف إذن في العراق الساحة الأدقّ بالنسبة للأميركيين بعد أفغانستان ومن غير المعروف بعد إذا كانت فرنسا هي من يغطي أو يحلّ مكان هذا الحضور الذي لا يمكن ان تغطيه جهة أياً كان حجم تمثيلها، بالتالي تبدو رسائل واشنطن بالتحضير لوضع جديد بالعراق واضحة حيال صيغة تجعل من اللاعبين الكبار في المنطقة جزءاً من أمن العراق، أبرزها ضرورة التنسيق السعودي الإيراني المباشر، الأمر الذي تؤكده الجلسات التي سبقت القمة.

واشنطن التي تحضر من خلال العمل على عدم دعوة سورية أوصلت موقفها الحادّ حيال هذا المشهد الذي لا تبدو واشنطن حتى الساعة أنها توصّلت الى شكل نهائي لإدارته والذي لم يخرج من دائرة مصالحها المباشرة، كيف لا والمسألة تتعلق بالوجود الروسي هناك وسورية هي أحد أقوى أوراق الضغط التي سيتمسك بها الأميركي أطول وقت في محاولة للحصول على أكثر قدر ممكن من التنازلات الروسية في ملفات تبدأ من الشرق الأوسط وتصل حدود أوروبا الشرقية وسباق التسلح وآبار النفط.

العراق الذي لفت النظر إليه بإعلانه أرضاً عربية محايدة ونزع عنه صفة أرض «الصراعات الدموية» وتقاتل الايديولوجيات يتوجه لإعلان استعداده للعب دور وسيط لحلّ أزمات الجوار، ولأن يكون ساحة اعتدال لا تدخل لعبة المحاور ولا يظهر فيها ما من شأنه أن يحسب طرفاً غالباً او مغلوباً، هو صيغة ما قبل الانتخابات العراقية التي تقترب أكثر فأكثر والتي جعلت من أفرقاء أبرزها التيار الصدري تعيد النظر بقرار المقاطعة، ما يؤثر بشكل مباشر على نتائجها، خصوصاً أنّ هذا الإجماع حول الرئيس الكاظمي من شأنه ان يعزز حضوره أكثر في الساحة السياسية العراقية.

الحديث عن فشل قمة بغداد ليس سوى موقف متطرف في الوقت الذي كشفت فيه هذه القمة عن جدية القوى الإقليمية الأساسية التي فرّقتها أزمات استراتيجية استعدادها للجلوس مع بعضها البعض للانضواء ضمن حلول ممكنة كان الاجتماع حول العراق مظلتها، لكنه أرضية كاملة قادرة على التأسيس لجلسات تجمع الأضداد على إيجاد حلول لأزمات المنطقة، لا سيما بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان وهو الذي يشكل التبرير الأقوى لمثل هذا الاجتماع، فالأميركي الذي أسّس لسنوات أكبر القواعد العسكرية في العراق يدرك تماماً مخاطر الانسحاب منه الذي لا يحتمل بأيّ شكل من الأشكال حجم الفراغ الذي تركه الأميركيون في أفغانستان لا على صعيد دول الجوار ولا على صعيد الأمن القومي لكلّ دولة على حدة.

لا شك انّ المتغيّرات التي تطرق الأبواب تأتي من بوابة المتغيّر الأساسي القادم من البيت الأبيض، فمنذ استلام الرئيس الأميركي الديمقراطي جو بايدن السلطة خلطت الأوراق وباتت السياسة الأميركية الأكثر ميلاً نحو الانكفاء والعودة الى الداخل أكثر بروزاً منه الى سياسات توسعية قادها الحزب الجمهوري في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب لتبقى مسألة قبول انضمام إيران الى مستوى تقرير المصير بمثابة اعتراف بضرورة بتّ النزاعات عبر مشاركتها بدل عزلها الأمر الذي يؤكد انّ المسار التفاوضي النووي لا يزال مستمراً بالرغم من التغيير الحاصل على مستوى الرئاسة الإيرانية الجديدة والفريق الدبلوماسي المفاوض.

نجحت قمة بغداد بجمع الأضداد بحيث لم يكن مطلوباً أكثر بعد استحالة مشاهد التقارب ولا الاجتماع تحت سقف واحد في المنطقة بين لاعبيها، وليس عادياً او عرضياً تجاهل هذا التفصيل والرسائل المباشرة دبلوماسياً في شكل التعاطي بين الدول بعد مقاطعة كبرى دولها بعضها للبعض، والمنطقة التي تعاني من خلافات بما فيه الكفاية ومن اضطرابات خطيرة أهمّها ما يجري في لبنان اليوم بما يقع ضمن نفس الحسابات يمكن ان تستفيد بشكل كبير من اعتبارها حجر أساس للمزيد من الاجتماعات ضمن نفس المظلة والإطار لحلّ أزماتها عسى ان يكون للبنان الذي استبعد عن القمة دون ان يغيب بتفاصيله نصيب من نتائجها…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى