أولى

الحلّ الإنساني… مرحلة ما بعد السلام الاقتصادي

 سعادة مصطفى أرشيد _

تغيب المسألة الفلسطينية كمسألة سياسية، وعلى ما يبدو أنها لم تعد تهمّ إلا قليلاً من هذا العالم، وحتى من أصحابها وأهلها، وتكاد أن تنحصر أهميتها بعلاقتها بـ «الإسرائيلي»، الأمر الذي مثل نعمةً هامشية وفي الوقت ذاته نقمة كبيرة، إذ إن من يهتمّ بها أصبح ينظر إليها من خلال انحيازه لـ «إسرائيل».

قمة بغداد التي حضرها العرب والإقليم وفرنسا، غابت عنها فلسطين حضوراً وذكراً واهتماماً، وهي التي لم تكن لتغيب عن أية حدث أو لقاء، ولا يخلو أي بيان ختامي من ذكرها ولو كذباً ورياء، لم تحضر في قمة بغداد حتى بهذا الإطار الهزيل فقد تناساها الجميع .

هذا الغياب السياسي كان لافتاً أيضاً في زيارة رئيس الوزراء «الإسرائيلي» نفتالي بينت إلى واشنطن، وفي مجمل لقاءاته هناك، وبالطبع أهمها مع الرئيس الأميركي، الذي يدرك مقدار هشاشة ضيفه وحكومته، ويتخوف من عودة نتنياهو لرئاسة الوزراء، فبحسب الصحافة الأميركية و»الإسرائيلية» تركزت المحادثات حول إيران وملفها النووي وأفغانستان والفراغ الناشئ عن الانسحاب الأميركي من المنطقة، وجائحة كورونا والإرهاب الإسلامي، وملفات عدة أخرى، فيما اقتصر الشأن الفلسطيني على طلب بايدن أن تقدم الحكومة «الإسرائيلية» مساعدات إنسانية، وتسهيلات اقتصادية للسلطة الفلسطينية، نفتالي بينت أكد للصحافة الأميركية أن لا مفاوضات مع الفلسطينيين، ولا دولة فلسطينية، ولا وقف للنشاط الاستيطاني، وأعاد التأكيد على ما تقدم، عندما صادق على اجتماع وزير دفاعه بالرئيس الفلسطيني، معتبراً أنّ اللقاء غير سياسي وليس في إطار مفاوضات سياسية، إذ لا يوجد أي تفاوض أو مسار سياسي مع الفلسطينيين، ولن يكون بحسب قوله .

صحيفة «يديعوت أحرونوت» وعلى ذمتها – وهو أمر لم ينفه أحد، ذكرت أن لقاء أبو مازن مع بيني غانتس كان ناجحاً، وتفاهم الطرفان على أنه لا توجد فرصة لمفاوضات سياسية في المستقبل القريب، لهذا تم الاتفاق على مسائل بناء الثقة واستجابة لطلب بايدن، الحكومة «الإسرائيلية» ستوقف بناء مستوطنات جديدة، ولكنها ستسمح بالنمو الطبيعي للمستوطنات القائمة (غير الطبيعية أصلاً)، ستوافق على 3000 طلب جمع شمل لفلسطينيين قسم منهم يقيم أصلاً بالضفة الغربية (بحسب المتحدث الفلسطيني 5000)، كما رفعت وزارة الدفاع عدد العمال الفلسطينيين المسموح لهم بالعمل في المصانع والمزارع وورشات البناء «الإسرائيلي» بـ 15000، إضافة إلى 140000 حاصلين على أذونات عمل، وعلى منح السلطة قرضاً بنصف مليار شاقل، وعلى دراسة طلبات بناء فلسطينية في مناطق ج التي تقع تحت السيادة الأمنية «الإسرائيلية»، وبحسب المؤتمر الصحافي لوزير الدفاع أنه قال: قلت لأبي مازن، وأقولها لكم أيضاً، لا نحن ولا الفلسطينيين سنذهب إلى مكان أبعد غداً صباحاً، تم عقد هذا الاجتماع، بهدف بناء ثقة متبادلة وللحفاظ على المصالح «الإسرائيلية» ولتقوية العلاقة مع السلطة الفلسطينية، فكلما كانت هذه السلطة أقوى، ستكون حماس أضعف، وكلما ازدادت سيطرة السلطة الفلسطينية، فإنه سيكون لدى «إسرائيل» مزيد من الأمن الذي يجعلنا نبذل جهداً أمنياً بصورة أقل من الآن .

في القريب ستدرس لجان البناء والتنظيم الحضري «الإسرائيلية» الطلبات التي سيتقدم بها فلسطينيون للبناء في مناطق (ج)، التي ما زالت تحت السيادة «الإسرائيلية»، وكما كان يحدث في المرات السابقة، سيتم رفض معظم هذه الطلبات، أو وضع شروط تعجيزية تجعل من البناء عملية مكلفة جداً، وطلبات جمع الشمل سيستفيد منها مقيمون بحكم الأمر الواقع في الضفة الغربية، ممن دخلوا بتصاريح زيارة ولم يغادروا، أو مواطنون غزيون دفعتهم ظروف مختلفة للعيش في الضفة، أما النمو الطبيعي للمستوطنات، فسيشهد تغوّلاً محموماً بتمدّده وسيلتهم من الأراضي فوق ما كان سيفعل الاستيطان التقليدي في بناء بؤر استيطانية عشوائية .

يكمن القلق في أنّ ما تقدّم يجري بعيداً من السياسة، وفي تعزيز الانفصال التام عن غزة، إلى أن تلتزم غزة والمقاومة بشروط الرباعية الدولية، وهي لن تلتزم بها بكل الأحوال، والأهم أنه في حين تتشدد السلطة الفلسطينية في هذا الشرط، بشكل يفوق تشدد الرباعية الدولية نفسها التي لم تعد تتشدد في إلزام غزة وحماس بهذه الشروط، وها هي قد أخذت منذ فترة تتعاطى مع المقاومة عبر قطر (سيدة الخليج في عهد الرئيس بايدن والإدارة الديمقراطية)، ومؤخراً وأثناء معركة سيف القدس، لم تنقطع وفود الرباعية الدولية عن قطر ومعها ممثل للأمين العام للأمم المتحدة، عن زيارة قطر واللقاء بقادة المقاومة الذين تستضيفهم الدوحة .

لكن فلسطين ليست الضفة الغربية فقط، فغزة حاضرة ومسلحة، ولها محورها الداعم، بل لعلها ستجد في الإهمال السياسي والتركيز على الخدمات المعروضة «إسرائيلياً» وأميركيا ما يستثنيها، وما يعزز الفصل بينها وبين الضفة، وهو الأمر الذي كانت تفترضه غزة والمقاومة وأن معركة سيف القدس قد عالجته، تشعر غزة أن انتصارها في سيف القدس لم يتجاوز الانتصار المعنوي بعد أن خذلها الوسطاء، ولم يعد الغزيون يرقبون شاحنات المساعدات، أو يسمعون هدير الآليات الثقيلة القادمة لإعمار ما دمرته الحروب المتعاقبة، ترى غزة أن الاستثمار الإنساني – الخدماتي، لن يوقف الاعتداءات التلمودية على المسجد الأقصى، وهي قادرة في الغالب على استثمار ذلك كما فعلت قبيل الحرب الأخيرة عندما أصبحت باحات المسجد الأقصى Hyde Park، ساحات خطابة للحث على المقاومة، وأحياناً للهجوم على السلطة، إضافة إلى أنها عند نفاد صبرها من إطلاق عملية إعادة الإعمار وفتح المعابر، ستكون أمام خيارين كلاهما مر، ولكن أحدهم أكثر مرارة، التعرض للغضب ونفاد صبر أهل غزة، أو الاشتباك من جديد مع «إسرائيل»، في حرب أكثر ضراوة، لن تقدم عليها غزة بمعزل عن حلفائها .

يعقد البعض آمالاً على القمة الأردنية – المصرية – الفلسطينية التي ستعقد في شرم الشيخ اليوم الخميس – وبحسب موقع «صوت الوطن»، فقد ذكر عن مصادر عبرية أن رئيس الوزراء «الإسرائيلي» نفتالي بينت قد يحضر القمة ـ والتي تمثل رأس جبل الجليد للمحور الذي هو قيد التشكل لمواجهه محور غزة – طهران، يعرف من يتابع أوضاع وظروف أطراف هذه القمة، مدى الضعف الذي تمر به الأطراف الثلاثة – الأربعة، ومدى علاقاتها الحميمة مع السعودية والإمارات والبحرين ومن لف لفهم، وحاجتها لإرضاء الإدارة الأميركية، ورغبتها في عدم عودة نتنياهو لرئاسة الحكومة، وفي عدم الوصول إلى اتفاق حول الملف النووي مع إيران، مما يؤدي إلى رفع الحصار عنها، ويستطيع المتابع أن يعرف مسبقاً ما سيتطرق إليه البيان الختامي فلسطينياً: العمل على دعم صمود الشعب الفلسطيني، وضرورة توحيد صفوفه وجهوده، حماية القدس واعتبار الاعتداء على مقدساتها خطاً أحمر لا يسمح بتجاوزه، العمل مع الإدارة الأميركية على تطبيق حل الدولتين، وإقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967، وما إلى ذلك من نصوص لم تعد تقنع الفلسطيني الحائر الحزين، الذي يرى ملء سمعه وبصره، أن النمو الطبيعي للمستوطنات لن يترك متسعاً لإقامة دولة، ومع التسرّب اليومي للعقارات المقدسية في البلدة القديمة والشيخ جراح وسلوان، لصالح الجمعيات التلمودية التي نعجز عن التصدي لها ومعالجتها، أولا نرى حاجة لذلك، لن يتبقى من القدس إلا القليل، ويعلن «الإسرائيلي» صبحاً ومساءً أن لا دولة فلسطينية، لا تفاوض أو مسار سياسي مع الفلسطينيين، القدس عاصمة إسرائيل الأبدية وهي مدينة موحدة، هذا وإن كان الحديث قد كان يدور في السابق عن مشاريع بناء مؤسسات الدولة تحت الاحتلال، والسلام الاقتصادي، والسوق الشرق أوسطية، فإنّ المطروح اليوم هو الحل الإنساني، الذي يوضع لأي شعب بائس فقير، يتعرّض لجائحة وبائية، أو جفاف أو مجاعة.

* سياسي فلسطيني مقيم في الكفير ـ جنين ـ فلسطين المحتلة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى