أولى

وإنْ خرج من أفغانستان مُكرهاً: سيبقى الذئب الأميركي على الأبواب متأهّباً متربّصاً!

 د. عدنان منصور _

كثيرة هي الآراء، والاجتهادات والتحليلات، والتوقعات، التي صدرت عن وسائل الإعلام في العالم، وعن زعماء ومسؤولين، واستراتيجيين دوليين، وعن متتبّعين لما جرى من تطورات دراماتيكية في أفغانستان، جراء الانسحاب الأميركي الذليل الذي فرضته طالبان على الولايات المتحدة بعد عشرين عاماً من غزوها لأفغانستان.

 على الرغم من آلتها العسكرية الهائلة، وتحالفها الدولي، وإنفاقها 300 مليون دولار يومياً لعقدين من الزمن هي تكلفة الحرب، كما جاء على لسان الرئيس الأميركي جو بايدن، لم تستطع واشنطن ان تقضي على طالبان، أو تحقق الأهداف المزيّفة التي وعدت بها العالم. بل خرجت متجرّعة سمّ الانسحاب الذي شكل ضربة قوية لسمعة، وهيبة الولايات المتحدة وقواتها العسكرية. إذ أن الانسحاب المهين بالشكل الذي حصل، سجل لها مرة أخرى هزيمة عسكرية، بعد هزيمتها التاريخية في فيتنام، انتهى بالهروب الجماعي من على سطح السفارة الأميركية في سايغون عام 1975. وكأنّ قدر الجيش الأميركي هو الهرب دائماً من مقاومات الشعوب وغضبها، والخروج بأيّ وسيلة من المستنقعات الحربية التي زجّت الولايات المتحدة نفسها فيها، وهذا ما جعل صورتها ومكانتها، مشوّهة في الداخل الأميركي، وعرت عنجهيتها وغطرستها القبيحة أمام العالم كله، بعد أن لطخت اياديها بدماء الشعوب الحرة،على مدى قرنين وأكثر من الزمن، من أميركا اللاتينية الى أفريقيا الى آسيا.

 تاريخ أميركا حافل بإثارة الاضطرابات، والفوضى في العالم، والوقوف وراء الانقلابات، والدكتاتوريات، وإثارة وتأجيج النزعات العرقية، والطائفية، والقومية، والتحريض على الثورات، وحياكة المؤامرات، وتقويض الأنظمة الوطنية، وما أكثرها، التي عارضت وتعارض سياساتها وأهدافها، وترفض الدخول في الفلك الأميركي!

 بعد عشرين عاماً، تعود أفغانستان من جديد الى أحضان حركة طالبان التي بدورها ستعود الى سيرتها الأولى، وإنْ تغيّرت شكلا ولوقت، الأدبيات السياسية لقادتها، من خلال إعطائهم التطمينات لمكونات الداخل الأفغاني، وشرائحه القومية والطائفية، كما لدول الجوار.

 « تطمينات» وتصريحات هادئة تأتي من حركة أصولية متطرفة، في بلد حبيس جغرافياً، يقع في منطقة جيو سياسية حساسة، في قلب آسيا الوسطى، يربط شرق وغرب وجنوب ووسط اسيا. بلد هو أحد نقاط الاتصال المهمة لطريق الحرير التاريخي، حيث يشكل أهمية كبرى لمشروع «الحزام والطريق» التي تعمل الصين حالياً على تنفيذه، والذي يمتدّ من آسيا الى أوروبا، ويمرّ على مفترق الطرق التجارية الرئيسة. إذ يحيط بأفغانستان، كلّ من طاجكستان، وأوزباكستان، وتركمانستان من الشمال، وإيران من الغرب، والصين من الشرق، وباكستان من الجنوب.

 لا يتصوّر أحد أنّ واشنطن سترمي سلاحها و»تستسلم» للتطورات والمتغيّرات التي يشهدها شرق ووسط وغربي آسيا. إذ ليس من السهولة على الولايات المتحدة وهي القوة الحاكمة في عالم اليوم، ان تتقبّل قوة عظمى صاعدة، وقوى إقليمية مؤثرة تشقّ طريقها بثبات، تشكل لها على المدى المتوسط منافسة وتحدياً لمكانتها، ولمصالحها السياسية، والاقتصادية، والتجارية، والعسكرية، والأمنية والاستراتيجية. لذلك ترى واشنطن بعد التطورات الحاصلة، انه لا بدّ من تطويق ما يجري، واحتواء «الهجمة» الشرقية على المصالح الغربية ككلّ، لا سيما مصالح الدولة العظمى، والعمل على خلخلة وزعزعة الأسس التي تستند اليها هذه الهجمة.

 هنا لا بدّ للمراقب والمتتبّع للأحداث والتطورات في آسيا ككلّ، من ان يتساءل لجهة عدة أمور حساسة تعني مباشرة الولايات المتحدة، حيث من الصعوبة بمكان تجاهلها، او التغاضي عنها وهي:

1 ـ كيف يمكن للولايات المتحدة أن تترك بسهولة الساحة الأفغانية، دون أن يكون لها حصة فيها، وهي التي أنفقت عليها أكثر من 2 ترليون دولار على مدى أكثر من عشرين عاماً، والتي تحتوي على ثروات طبيعية هائلة تسيل لعاب الدول؟!

فوفقاً لوزارة المناجم والبترول الأفغانية، تقدّر قيمة الثروة المعدنية في أفغانستان بنحو ترليون دولار. إلا أنّ هيئة المسح الجيولوجي الأميركية، تقدّر القيمة الحقيقية للثروة المعدنية بـ 3 ترليون دولار. بالإضافة الى أنّ أفغانستان تمتلك ثاني أكبر احتياطي في العالم من النحاس، و 2.2 مليار طن من خام الحديد، و 400 نوع من الرخام، وغيرها من المعادن الثمينة، واحتياطي مهمّ من الليثيوم وهو من العناصر الأساسية في صناعة البطاريات والالكترونيات والسيارات الكهربائية، والهواتف الذكية.

2 ـ إنّ مشروع «الحزام والطريق» يشكل قلقاً وهواجس قوية لواشنطن، نظراً لما سيحققه من مكاسب وإنجازات كبيرة للصين والدول التي يشملها المشروع، ما يعزز من مكانتها الاقتصادية والتجارية والمالية، ومن نفوذ واسع في أكثر من مكان على طول «الحزام والطريق» الممتدّ من آسيا الى أوروبا.

لذلك سترمي واشنطن بكلّ ثقلها، لوضع مطبات وحواجز هنا وهناك من أجل إعاقة او تأخير إنجاز المشروع، وما أفغانستان الا إحدى الحلقات الضعيفة التي منها تستطيع الولايات المتحدة أن تنفذ الى أكثر من مكان في وسط آسيا.

3 ـ إنّ التحدي الأكبر لواشنطن اليوم، هو المحور الثلاثي الصيني ـ الروسي ـ الإيراني، الذي بدا واضحاً، أنه يمسك بزمام الأمور والمتغيّرات والتحوّلات الجارية في قارة آسيا. ولم تعد الولايات المتحدة «تحتكر» نفوذها العسكري والتجاري في جنوب شرق آسيا، وغربها.

لذلك، ستجد أميركا نفسها وهي القوة العالمية الحاكمة اليوم، أمام مواجهة فعلية مع القوى الصاعدة المنافسة، يحتم عليها تعطيل او إفشال دور المحور الثلاثي بمختلف الوسائل، خاصة أنّ العقوبات التي فرضتها واشنطن وحلفاؤها على روسيا وايران، وعلى شركات صينية، وفرض المزيد من الرسوم الجمركية على بضائع تستوردها الولايات المتحدة من الصين، لم تفلح في ليّ ذراع الدول الثلاث، وحملها على الإذعان لمطالبها وشروطها.

4 ـ يعرف الصيني كما الروسي والإيراني، أنّ الذئب الأميركي لن يتقبّل هزيمته أو تعثره، أو تراجعه، عن الساحة الآسيوية والشرق أوسطية. وهذا الأمر دفع بالرئيس الصيني شي جين بينغ بعد أيام قليلة من الانسحاب الأميركي من أفغانستان، للاتصال بالرئيس الروسي بوتين يوم 27 آب الفائت، ليؤكد له، أنّ على الصين وروسيا «تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين البلدين لبناء عصر جديد للبشرية، وتعميق التعاون بينهما لمواجهة التدخل الخارجي في شؤونهما». والمقصود بالتدخل الخارجي هنا بالدرجة الأولى، الولايات المتحدة، وما يمكن لها ان تقوم به بعد هزيمتها في أفغانستان، من خلال إشعال وتحريك بؤر توتر، أكان ذلك في مقاطعة شينكيانغ الصينية، او في منطقة سيستان وبلوشستان، وعلى طول الحدود الإيرانية الأفغانية، وفي المناطق الغربية والجنوب الغربي لإيران، أو في روسيا، والعراق وسورية، بغية إضعاف الجبهة الممتدة من الصين الى سورية، مروراً بأفغانستان، وروسيا وإيران والعراق!

5 ـ إنّ الفصائل الإرهابية وعلى رأسها تنظيم داعش، جاهز في كلّ وقت، ليكون في خدمة من يموّله ويوجّهه، ويدرّبه ويسلّحه، ويخطط له. فتنظيم داعش هو الاحتياط الاستراتيجي لواشنطن وهي تخوض حرب النفوذ والهيمنة ضدّ الجبهة المقاومة والمعارضة لها في العراق وسورية ولبنان. وما أفغانستان إلا الاختبار العملي لطالبان بعد عودتها الى السلطة من جديد، لتثبت ما إذا كانت فعلاً تريد تطبيق سياسة حسن جوار مع دول محيطها، أم انها ستكون حصان طروادة، منه تطلق العنان على أرضها لفصائل داعش كي تفعل فعلها لزعزعة الاستقرار والأمن لدول المنطقة!

بذلك تخوض واشنطن هذه المرة، حرب استنزاف طويلة بالواسطة ضدّ أعدائها، ودون ان تتواجد قواتها العسكرية على الأرض. وهنا نتوقف أيضاً لنتساءل، عما إذا كانت الولايات المتحدة نسقت مع طالبان قبل خروجها، لرسم سياسات مشتركة مستقبلاً تخدم أهداف الطرفين؟!

6 ـ إنّ سياسة الولايات المتحدة ترمي حالياً الى تفتيت دول المشرق، وخلخلة وحدتها، وإغراقها في مشاكلها الداخلية. لذلك نجدها ترمي بثقلها لإبعاد العراق عن إيران وسورية، وشلّ دوره الوطني والعربي، والرهان على أعوانها وعملائها في الداخل، والحفاظ على نفوذها السياسي وتواجدها العسكري والاستخباري في العراق، وهي على مقربة من تنظيم داعش وأخواته.

هو الحال أيضاً بالنسبة الى سورية، وما تقوم به واشنطن من دور تقسيمي، واحتلال لأجزاء من الأراضي السورية، ورعايتها لـ «قسد» شرقي الفرات حيث ترمي من ورائه الى فرض أمر واقع تقسيمي، يهدف الى إبقاء سورية في صراع طويل الأمد ضدّ القوى الإرهابية، وإبعادها عن دورها الوطني والقومي، وهي في مواجهة العدو «الإسرائيلي» المحتلّ، واعتداءاته المتكررة عليها، وفي تصدّيها لقوى الهيمنة والتسلط.

7 ـ إنّ الانسحاب المذلّ للولايات المتحدة من أفغانستان سيدفع بها وبحلفائها في المنطقة، لا سيما «إسرائيل» كي تسلك نهجا أكثر شراسة وعداء، حيال جبهة تمتدّ من الصين الى وسط آسيا، الى البحر الأبيض المتوسط. وما لبنان الا الامتداد لهذه الجبهة، حيث تعمل واشنطن من خلال العقوبات غير المباشرة المفروضة عليه عملاً بـ «قانون قيصر»، ممارسة المزيد من الضغوط السياسية والاقتصادية والمالية القاسية، لإكراهه على الخضوع للإملاءات والشروط الأميركية، وإبعاده عن المحور المقاوم الرافض لسياسات الولايات المتحدة، والضغط عليه، بغية حمل السلطات اللبنانية على نزع سلاح المقاومة بأي شكل من الأشكال !

 لا يظنن أحد أنّ الولايات المتحدة ستخلي للآخرين، ساحة الشرق الأوسط، والشرق الأدنى، أو تتخلى عن مصالحها الاقتصادية والتجارية، والاستراتيجية، وإنْ انهزمت في أفغانستان ولم تحقق مبتغاها. فالساحة أمامها واسعة، والنكسة تراها مؤقتة، تتبعها صولات وجولات ولن تتوقف. لأنّ عنجهية واشنطن لا تقرّ ولا تعترف بأنّ العالم يتغيّر، وأنّ الدولة الحاكمة فيه مؤقتة، وأنّ الغبار بدأ يغلف بريقها رويداً رويداً، وأنّ زعامتها على العالم ودورها فيه، أصبح على المحكّ أمام قوى صاعدة كبيرة تصنع الأحداث، وتسطر تاريخاً جديداً للعالم.

 انّ غرور وصلف الولايات المتحدة، واعتدادها بقوتها، وتعدّيها على سيادة العديد من الدول، وحقوق شعوبها ومصالحها، وإصرارها على كبح جماح العملاق الصيني، وعدم اقتناعها بحتمية المتغيّرات الدولية التي تتعارض مع مصالحها، سيدفعها لتكون أكثر شراسة من قبل، تستخدم كافة الوسائل المتاحة، لا سيما العقوبات المالية والاقتصادية والتجارية، للحفاظ على مكاسبها وامتيازاتها وتسلطها، تعزيزاً لنفوذها في شرق آسيا والعالم. وهذا يحتم على الذئب الأميركي أن يبقى خلف الابواب ينتظر، يتربّص بدول شرق ووسط وغربي آسيا، ينتهز اول فرصة ليتأهّب وينقض على عدوه، كي يسترجع ما خسره.

 إنّ نفوذ الولايات المتحدة في العالم، لا يزال متجذراً، ومتواجداً بقوة في القارات الخمس، ولم يترنّح بعد. فلا يتصوّر أحد أنّ هزيمتها في أفغانستان ستجعلها تنكفئ عن المنطقة، أو تتراجع عنها، بل على العكس، ستعاود اندفاعها أكثر، وتعيد حساباتها، وتنسج تحالفاتها طالما أنّ أنياب الذئب الأميركي تبقى بارزة، يتحيّن الوقت المناسب، لينقضّ بكلّ شراسة على عدوّه مهما كلفه ذلك من ثمن.

 هل يعي حقيقة الأمر جيداً، المراهنون، والمبالغون، والمفرطون بالتفاؤل الشديد، حيال «التراجع» الأميركي، و»انحسار» هيمنته على الساحة الدولية، بعد انسحابه

من أفغانستان؟!

 إنّ الانسحاب الأميركي ليس نهاية المطاف، بل هو فصل من فصول الصراع الدولي، على القوة، والنفوذ، والمصالح، والثروة، والسيطرة.

لذلك من المبكر الحديث عن سقوط الأمبراطورية الأميركية، أو نهاية هيمنتها وتسلطها ونفوذها،

كما يروّج البعض، ويندفع بحماس عفوي، او مبالغ فيه، لأنه شئنا أم أبينا، لا تزال الولايات المتحدة، تتصدّر بكلّ قوّة الزعامة العالمية اقتصاداً، ومعرفة، وتكنولوجية، ومالاً، وقوة، ونفوذاً، وهيمنة، وتأثيراً.

من اللافت أنه حتى الآن لم تستطع أي مجموعة او منظمة دولية من بريكس الى شنغهاي، رغم جهودها، ومحاولاتها العديدة، كسر أو الحدّ من هيمنة الدولار الأميركي، الذي لا زال يتصدّر العملات العالمية الصعبة، ويطغى على اقتصادات الدول، وعلى التبادلات التجارية الدولية!

 إنّ صراع الكبار صراع طويل ومرير، وتغيير المعادلات الدولية يأخذ وقتاً، ولا يتمّ بتراجع طرف من موقع ما، أو تقدّم طرف في موقع آخر. خاصة عندما تدخل حلبة الصراع أطراف متعددة، كل طرف فيها، له أهدافه، وحساباته، ومصالحه الخاصة !

 حقائق الأمور تتطلب منا النظر للأمور والتطورات والأحداث بواقعية حتى لا نتيه في الحسابات العاطفية الخاطئة، وندفع في ما بعد ثمن نتائجها!

*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى