نقاط على الحروف

أبعد من نفق الحرية… معادلات جديدة

 ناصر قنديل

– عملية نفق الحرية التي نفذها القادة الأسرى الأبطال ليست بلا سياق كي نتوقف في قراءتها عند حدود البطولة والعزم والإرادة، كعناصر تختزنها العملية وتعبر عنها بقوة من جهة، فيما تعبر من جهة أخرى، عن حال الاهتراء والضعف والتراجع في حال كيان الاحتلال ومستوى جاهزية وتفوق إجراءاته الأمنية، وتطعن بفعالية مؤسساته العسكرية والاستخبارية والإدارية والقضائية في ردع المقاومين الفلسطينيين، وتقديم السجن المؤبد كنهاية حتمية لجيل المقاومين القادة، إعلاناً بإخراجهم نهائياً من حلبة الصراع، فالعملية التي نفذها قادة مقاومون أصحاب رؤية ودور فاعل في رسم سياق النضال الوطني الفلسطيني، تأتي في سياق فهمهم لتنامي هاتين المعادلتين، معادلة تعبّر عن القوس الصاعد بثبات لحضور الشعب الفلسطيني ومقاومته، ومعادلة تعبّر عن القوس الهابط بثبات أيضاً، لحضور وفعالية المؤسسة العسكرية والأمنية لكيان الاحتلال، بصفتها العصب الوجودي لهذا الكيان.

– تأتي العملية ضمن سياق متلاحق على إيقاع سريع لوجهة واحدة، هي وجهة هذا الصعود والتألق في حضور الفلسطينيين شعباً وناشطين ومقاومة مسلحة، لفرض معادلات بدأت مع انتفاضة شباب القدس وحي الشيخ جراح والحضور في المسجد الأقصى، لتتوّجها صواريخ المقاومة الرادعة لحماية المقدسات، والتي انتهت بمواجهة سيف القدس التي كسرت خلالها مهابة ردع جيش الاحتلال لتحل مكانه عبر الصواريخ التي أحيت ليل تل أبيب معادلة الردع الفلسطينية، وبالتوازي تزامنت المواجهة مع ظهور عامل خطير تمثل بنهوض ظاهرة شباب الأراضي المحتلة العام 48 وإسقاط لمعادلة توصيفهم بـ»عرب إسرائيل»، وإعادة إنتاج موقعهم الحاسم في النضال الوطني الفلسطيني، على قاعدة رفض الاحتلال والاستيطان، وبعد تثبيت معادلة سيف القدس تواصلت حركة فلسطينيي الداخل، بصفتها تعبيراً عن توازن جديد غير قابل للكسر، وظهر المستوطنون في حال تراجع مع عمليات الهجرة التي سجلتها المدن والبلدات المختلطة بالنسبة لعشرات العائلات اليهودية، بما أعاد إحياء الصورة الأصلية لهذه البلدات والمدن، كجزء من الجغرافيا الفلسطينية، كما وصف نواب الجماعات المتطرفة للمستوطنين في مداخلاتهم تحت قبة الكنيست ما جرى في مدينة اللد، وترافق هذا المشهد المزدوج بين غزة والأراضي المحتلة عام 48 بحركة نضالية متصاعدة وثابتة الحضور في بلدات جوار القدس بوجه المستوطنين وامتدت إلى الضفة الغربية بتعبيرات مختلفة كانت أبرزها مواجهة بالسلاح في جنين سقط فيها أربعة شهداء، أعقبتها الطلقة الفلسطينية من مسافة صفر التي قتلت القناص الإسرائيلي في فوهة جدار غزة، وما تركته من تداعيات على صورة الآلة العسكرية الإسرائيلية أمام النهوض الفلسطيني الجديد، وفي تحول ربما يكون الأهم على الصعيد السياسي جاء التراجع الكبير في صورة السلطة الفلسطينية شعبياً، مع تحركات تشكك بوطنيتها وشرعيتها، مسجلة تحولاً جديداً لا يقل أهمية عن التحولات الموازية، وهو سقوط الشرعية الشعبية عن التنسيق الأمني الذي يربط أجهزة الاحتلال مع أجهزة السلطة الفلسطينية، وكانت الذروة مع استشهاد المقاوم نزار بنات، والانتفاضة التي رافقت استشهاده، بوجه السلطة وأجهزتها، من بوابة عنوان عريض لا للتنسيق مع الاحتلال ، ما حدا بالعديد من مسؤولي الأمن والاستخبارات والمحللين والخبراء الأمنيين في كيان الاحتلال للتحذير من خطورة انهيار السلطة وأجهزتها، أمام عجزها عن تحمل تبعات التنسيق الأمني والأحمال التي يرتبها على السلطة، مسجلاً سقوطها الأخلاقي بعيون الفلسطينيين، في ظل الغياب الكامل لكل المشاريع السياسية التي كانت تشكل غطاء تبرير التنسيق وتشرعنه، وظهور وعي فلسطيني ينظر بعين الريبة لكل وعود جديدة تطرح على هذا الصعيد، سواء في ظل حكومة بنيامين نتنياهو أو حكومة نفتالي بينيت.

– الذي يمنح هذه التحولات قيمة استراتيجية واستثنائية، ويجعل عملية نفق الحرية تزخيماً لمسار يبشر بلحظة نوعية قادمة حكماً، هو أنها تجري في مناخ دولي وإقليمي مليء بالمتغيرات التي تسير بالاتجاه ذاته، اتجاه التراجع لكيان الاحتلال وحليفه وداعمه الأول الذي تمثله الهيمنة الأميركية على المنطقة والعالم، فتحت ظلال معادلة القدس تعادل حرباً إقليمية أنجز تكامل التنسيق بين قوى وحكومات محور المقاومة، وتحت عنوان سفن المقاومة لجلب المحروقات من إيران إلى لبنان أرض لبنانية فرضت معادلة الردع في البحار على الكيان، وتحت عنوان مشابه دعت المقاومة للبدء بالحفر والتنقيب عن الغاز والنفط تحت حماية صواريخها، وجاء الانهزام غير المسبوق للأميركي في أفغانستان وما رافقه من ذل، لم تنجح محاولات التمويه والتغطية بتحويله إلى انسحاب منسق يتم تسويقه بصفته علامة مهابة القوة العظمى، فجاء مقتل الجنود المغادرين وإصرار الإدارة الأميركية على مواصلة الانسحاب قطعاً لكل جدل حول الهزيمة المحققة التي تمثل طليعة خروج أميركي من آسيا، لم يعد ممكناً تفاديه، وترجمت العملية العسكرية السورية في منطقة درعا الواقعة تحت أنف قاعدة التنف وعلى حدود القواعد الأميركية في الأردن والعراق والحدود مع الجولان المحتل، أكبر اختبار للحقائق الجديدة وأهم إثبات طازج على المعادلات التي ترسمها، ولم يكن الكلام الأميركي الذي ترجم بخطوات عملية لفتح الطريق لرفع العقوبات التي يفرضها قانون قيصر على استجرار الكهرباء الأردنية والغاز المصري إلى لبنان عبر سورية، إلا تعبيراً عن محدودية هوامش المناورة المتاحة أمام الإدارة الأميركية في مواجهة تمدد مساحات معادلات الردع التي ينقلها محور المقاومة من مدى إلى مدى جديد، كما فعلت سفن المقاومة بنقل معادلة الردع إلى البحار، فوجد الأميركي اضطراراً أن القبول بتثبيت نتائجها في البر، رد للضرر الأعلى بالضرر الأدنى.

– عملية نفق الحرية تأتي لتتوج هذا السياق المتسارع، تأكيداً لثنائية، مناخ فلسطيني جديد يشمل الشعب وفصائل المقاومة والنشطاء والنخب وشباب وصبايا الجيل الرابع، يرتكز على الشعور بالقوة، مفعم بالحيوية، مليء بالمبادرات، غير قابل للاحتواء، غير آبه بالتضحيات، قادر على فرض المعادلات، يتحرك تحت عنوان كل فلسطين لنا، ويضع السلطة بين خيارات صعبة، وكيان الاحتلال بين خيارات أصعب، وبالمقابل كيان مترهل، يشعر بالضعف، يتشظى سياسياً ويتراجع أمنياً، لا يملك هامش الاختيار للمناورة بين حرب يخشاها، وتسوية لا يقدر على رفع فواتيرها بما يجعلها قابلة للتداول، فهو بين شاقوفي مقاومة شعبية وعسكرية متصاعدة واثقة من أن كل معركة تقربها شوطاً من تحقيق أهدافها، ومستوطنين يزدادون تطرفاً وتوحشاً وشكوكاً بصدقية حكوماتهم، وهو عالق في منتصف الطريق بين مواجهة هذه الروح الفلسطينية الجديدة، فلا يجرؤ على تحديها والمضي في التحدي حتى النهاية، وبين التعامل مع عدمية وعبثية التطرف الاستيطاني الذي يشكل البيئة الانتخابية لصاعة السياسة، لا يجرؤ على تخطيها والقفز فوقها لإطلاق مبادرات سياسية تتجاوز الكلام الإنشائي الفارغ.

– لحظة دراماتيكية لتلاقي هذا القوس الفلسطيني الصاعد وهذا القوس الإسرائيلي الهابط ستشعل المنازلة الشاملة، وتنشئ حقائق جديدة تشبه لحظة ولادة التحرير في غزة، لتشق الطريق نحو مسار تراكمي جديد، يضع الكيان بين خياري المضي في حرب شاملة قد تكون آخر حروبه، أو التساكن مع متغيرات تزيد هزاله وتعمق حال التراجع الاستراتيجي، وتمنح خيار المقاومة مساحات إضافية في توازن الردع والتحرير، على قاعدة معادلة «القدس أقرب»، والمعادلة التي سبقتها «إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت» التي جاءت عملية نفق الحرية أبرز تجسيد حي لحضورها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى