مقالات وآراء

لماذا لا تكرّم الدولة رموز الاغتراب ورواده ولماذا لا يُمنحون وسام المغترب؟

} علي بدر الدين

لم تكن هجرة بعض اللبنانيين إلى القارة الأفريقية، في منتصف القرن التاسع عشر، من أجل السياحة والترف و»شمّ الهوا»، إنما كانت حاجة ملحة وضرورة لا بدّ منهما للهرب من الاحتلال العثماني، الذي مارس سياسة القمع والبطش والظلم والاستبداد والتفقير والتجويع والبطالة والذل والحرمان والإهمال، وفوقها اعتقال الشباب ورميهم في أتون حروبه، او زجّهم في السجون والمعتقلات، إجبارهم على ممارسة الأشغال الشاقة، وإعلانه الأحكام العرفية التي تؤدي الى الإعدام.

 رحلة آلام المغتربين ومعاناتهم القاسية بدأت، عندما اتخذ البعض من الشعب المعذب والمتألم والفقير والجائع وعائلته، قرار الخلاص بالهرب والهجرة في عتمة الليل، والصعود إلى باخرة محمّلة بالمواشي والفحم، من دون أن يعرف أحد وجهتها، ولا أين سيحط بهم الرحال، كلّ ما عرفوه من سماسرة الهجرة، أنها ستبحر إلى أميركا التي كانت آنذاك «حلم» كلّ مهاجر، بهدف تحفيزهم وابتزازهم مادياً.

غير أنّ مسار الباخرة وتوقفها لم يكونا كما كان يشتهي المهاجرون «الهاربون»، حيث رست في السنغال (أفريقيا)، فنزل منها البعض، ثم أبحرت إلى مرفأ مرسيليا (فرنسا)، حيث نزل البعض الأخر، ولكن المحظيين الذين دفعوا كلفة مالية زائدة عن غيرهم من الركاب، أكملوا الرحلة مع الباخرة إلى «أرض الأحلام» أميركا، كما كانت تعرف.

المهمّ أنّ السنغال كانت المحطة الأولى لهؤلاء المهاجرين الأوائل، فمنهم من استقرّ فيها، ومنهم من غادرها إلى دول أخرى في أفريقيا الغربية، حيث زرعوا البذرة الأولى للاغتراب والانتشار لاحقاً، بعد أن عانوا كثيراً من الجوع والمرض والتعب، وقد مات بعضهم غريباً في أرض بعيدة، وبين شعوب غريبة، والبعض الآخر عاد إلى الوطن خالي الوفاض، بعد رحلة الذهاب والإياب المحفوفة بالخطر الحقيقي. الذين صبروا وتحمّلوا وعملوا، «نجحوا» في جمع بعض الأموال، وصارت أخبارهم وقصص «نجاحهم»، وإرسالهم الاموال إلى عائلاتهم تصل الى مسامع الأقارب والأصدقاء والجيران وأبناء البلدة والجوار، فأخذت «الغيرة» تفرض نفسها على الراغبين بالهجرة، وهكذا تتالت الهجرات، التي كانت تحصل على مراحل، وعند اشتداد الأزمات وتفشي الفقر ووقوع الحروب، وتبدأ موجات من الهجرة، وتحديداً إلى أفريقيا الغربية حيث «نجح» فيها الرعيل الأول من المهاجرين، الذي فتح طريق العمل والأمل أمام أجيال راودتها فكرة الهجرة، وكان لها ما أرادت، وقد حققت فعلاً قفزات نوعية في العمل والإنتاج وجمع الأموال، وأدّى ذلك الى بروز رجال أعمال من المغتربين على مستوى عال، بعد أن خاضوا غمار البناء والتجارة والصناعة والزراعة، واستثمروا في كلّ قطاعات الإنتاج في الدول الأفريقية التي حطوا رحالهم فيها، وساهموا مع حكوماتها وشعوبها في «معارك» الإعمار والنهوض الاقتصادي والاجتماعي والانمائي، وحظيوا بثقة واحترام وتقدير السلطات والشعوب الأفريقية.

كثيرة فعلاً، هي أسماء المغتربين اللبنانيين في أفريقيا الذين حققوا نجاحات باهرة، وارتقوا سلّم العمل والمال والثروة، وفعل الخير والعطاء للوطن الأمّ وللوطن الثاني، ولم يبخلوا او يتخلوا عن الوطنين والشعبين، غير أنّ المقال والمقام هنا، لا يتسعان لذكر كلّ أسماء هؤلاء، ونذكر منهم آخر من غادرنا، وهما الراحل الأمين مسعد حجل، الرئيس العالمي الأسبق للجامعة اللبنانية الثقافية في العالم، والرئيس الدائم للمجلس الوطني للجامعة الثقافية في الكاميرون، ورئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر في الكاميرون، ورئيس المجلس القاري الأفريقي في الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم، رئيس الجالية اللبنانية والمجلس الوطني للجامعة في «الكوت ديفوار» نجيب زهر، الرجل العصامي، الذي لم تتخلّ عنه الجالية اللبنانية في الكوت ديفوار عن رئاسته لها، ولم تطرح بديلاً له، ولم تنافسه، لأنه المحترم والمقدّر والمتواضع والحاضر دائماً، وموضع ثقة من الجميع، كلمته مسموعة ورأيه مطاع.

عملاقان وطنيان اغترابيان من بلادي هما مسعد حجل ونجيب زهر، خسرهما لبنان بجناحيه المقيم والمغترب، كما خسرتهما أفريقيا دولة وشعباً وجمعيات ومؤسسات خيرية ورعائية ومدنية. وكان وقع فقدهما صعباً وقاسياً ومؤلماً، والأكثر إيلاماً أنّ الدولة ووزارة الخارجية والمغتربين في ظلذ الحكومات المتعاقبة، ومؤسّساتها الاغترابية الرسمية لم تكرّم أمثالهما وغيرهما من كبار المغتربين وروادهم ورموزهم أحياء أو أمواتاً، رغم أنها أصدرت رسمياً «وسام المغترب» الذي بقي حبراً على ورق، إلا في حالات استثنائية واستنسابية.

الراحل المغترب نجيب زهر الذي رحل منذ أيام، رغم انّ وداعه كان حزيناً ومؤثراً وحاشداً، إلا أنّ وزارة الخارجية والمغتربين كانت غائبة، ولا ممثل لها شارك في التشييع، ولا وسام وضع على نعشه، كما لم يوضع قبلاً على صدره من ايّ درجة، مع أنه وأمثاله من المغتربين اللبنانيين الناجحين، تركوا بصمات خير وعطاء وكفاح ونجاح يستحقون عليها التقدير والتكريم والأوسمة.

 نعته الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم، ورئيسها العالمي عباس فواز الذي قال: «برحيله نخسر علماً كبيراً من أعلام الاغتراب، ونفتقد روحه الطيبة الصادقة، ويفتقد الاغتراب اللبناني رائداً كبيراً من رواده، وقد أمضى ما يزيد عن نصف قرن من عمره في الاغتراب في قارة أفريقيا التي أحب ودائماً تحت راية وعباءة الجامعة».

ووصفه الرئيس العالمي السابق للجامعة ورئيسها الفخري حالياً أحمد ناصر «بالرجل الشهم والعصامي والكريم، وقادته سماته الطيبة ليتبوّأ المواقع القيادية المسؤولة في الاغتراب، وتحوّل باكراً إلى علم من أعلام الاغتراب اللبناني الوطني لا يهادن على الثوابت ولا يتنازل عن المسلمات. وكيف لا أبكيه وهو رفيق الدرب على مدى نصف قرن من الكفاح والعطاء».

 وأكد نائب رئيس الجامعة عاطف ياسين، «ان فقده في هذه المرحلة تحديداً شكل خسارة كبرى لا تعوّض للبنان المقيم والمغترب، ورحيله ترك أثراً كبيراً وهو رفيق رحلة الاغتراب الشاقة في أبيدجان والصديق الوفي والجار الطيب».

وقال مدير العام المغتربين السابق ورئيس المنتدى اللبناني للتنمية والهجرة المحامي هيثم جمعة: «إنه كان أحد رجالات الاغتراب، وأركان العمل الاغترابي في أفريقيا، ظلّ يعمل حتى آخر لحظة في حياته وكرّس عمله لخدمة وطنه والناس والجاليات على امتداد لبنان والاغتراب، وكان صديقاً مخلصاً لشعوب الدول التي كان فيها».

وقال الرئيس السابق للجنة التحكيم في القاري الأفريقية، رئيس لجنة المغتربين في بلدية كفرا مهدي حمدان، «كان يشغل أمكنتنا ووجداننا وكلّ الحضور، بغيابه غابت شمس أفريقيا، ورفضت طيورها التحليق حزناً على فقده، وتوقفت انهارها عن الجريان. كان الراحل جسراً مضيئاً بين المغتربات، كريماً صادقاً، صدوقاً، وفياً، محباً، بصمات خيره وعطائه واضحة أينما حلّ، مشهود له بمواقفه الوطنية الصادقة والشجاعة، إنّ قلوب المغتربين والمقيمين مفجوعة على غيابه».

ونعاه مكتب الجالية اللبنانية في ابيدجان، وجميع أبناء الجالية في «الكوت ديفوار» بالقول: «رحل عميد الاغتراب الجبل الشامخ فيه، أبو الفقراء، ورجل العطاء والسخاء والإنسانية والاخلاق»، كما نعاه الناشط المغترب وسيم غندور باسم والده عميد المغتربين اللبنانيين في العالم السفير فؤاد غندور، وعدد من رؤساء المجالس الوطنية الحاليين والسابقين وشخصيات اغترابية من أفريقيا، وأسرة مجلة «البحار» الاغترابية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى