أولى

هل يفعّل لبنان علاقاته بسورية قبل المزيد من هدر الوقت والمصالح؟

 العميد د. أمين محمد حطيط _

بعد أن سقطت موجات الهجوم المتعدّد الأشكال والعناوين وتكسّرت عند الأقدام السورية طيلة السنوات العشر من عمر الحرب الكونية التي استهدفت سورية منذ عام 2011، وبعدما تأكد الجميع أنّ سورية بذاتها أولاً ومع حلفائها ثانياً تملك من القوة والمناعة ما يجعلها صامدة ثابتة في موقعها الذي أهّلتها له خيارات شعبها وعناصر جغرافيتها السياسية، وبعد أن مُني خصوم سورية وأعداؤها في الإقليم بهزائم متلاحقة، بعد كلّ ذلك كان لا بدّ من الحديث عن وجوب استعادة المشهد الإقليمي صورته الحقيقية، وهي صورة لا تكون طبيعية أو منطقية أو مستقرة إنْ لم تكن سورية تملأ مقعدها الاستراتيجي فيه. واقع يفرض نفسه على الصديق والعدو لأنه نتاج حقائق مؤكدة وليست مجرد أماني شاعرية.

فسورية عرفت خلال الحرب الكونية العشرية كيف تحفظ كيانها السياسي الرسمي وتدافع عنه وكيف تحتفظ بمقعدها في الأمم المتحدة على رغم خروج أكثر من ثلثي مساحة البلاد عن سيطرة الحكومة في لحظة ما (قبل خريف عام 2015) وعلى رغم إنكار ما يسمّى المجموعة الغربية بقيادة أميركا لشرعية حكومتها ورئيسها، وعرفت بعد ذلك كيف تستعيد تلك السيطرة بشكل ممنهج يؤكد قوة الدولة واقتدارها في مقابل وهن الحركات المناهضة من الداخل أو الخارج سواء كانت حركات انفصال أو إرهاب أو احتلال إلخ… وعرفت كيف تصون تحالفاتها وتنمّيها وتثبت موقعها معهم في إطار المجموعة الاستراتيجية الإقليمية والدولية المتمثلة بمحور المقاومة المتحالف بصيغة أو بأخرى أو المتقاطع المصالح مع كل من روسيا والصين.

والآن وبعد هذا الصمود الأسطوري الذي واجهت فيه سورية شتى أنواع العدوان والكيد والإرهاب والإجرام تعود سورية المنتصرة لتلعب دورها الإقليمي والدولي، محطمة ما وضع في وجهها من حواجز أو ما كبّلت به من قيود، بدءاً بالمقاطعة العربية ـ الإقليمية المتعددة العناوين وصولاً إلى قانون قيصر الأميركي الكيدي، تعود لإشغال موقعها بعد أن أدرك الآخرون بخاصة من انتظم مباشرة أو مداورة في جبهة العدوان عليها بأنّ عدوانه فشل، وبأنّ عليه أن يراجع ملفاته وحساباته حتى لا يفاقم خسائره في المواجهة إنْ استمرّ متمسّكاً بها.

وعلى ضوء هذه الحقيقة نفهم ما تمّ حتى الآن من تفعيل للعلاقات السورية مع بعض العرب خاصة وأخيراً مع الأردن، تلك العلاقات التي شهدت محطات هامة خلال الأسبوعين الماضيين لن يكون آخرها اللقاء العسكري الأمني بين وزير الدفاع السوري ورئيس هيئة أركان الجيش الأردني مع جمع من كبار الضباط في البلدين، لتنسيق العمل الأمني العسكري الدفاعي المشترك، بما يحفظ المصالح الأمنية للبلدين على جانبي الحدود وفي العمق وبشكل يؤكد أنّ ملف الجنوب السوري الذي عولج بموجب التسوية التي عرضتها الدولة ـ تسوية درعا 2021 ـ بأنه ملف طوي إلى الأبد وبشكل نهائي.

كما تندرج مشاركة سورية في الاجتماع الوزاري العربي الرباعي في عمّان لبحث مسائل كهربائية ونفطية تخصّ لبنان، ولسورية دور حاسم في إنجاحها، كما تفهم المشاركة السورية في الاجتماعي المائي العربي في دولة الإمارات العربية المتحدة، وهو حضور يحصل بهذا الشكل للمرة الأولى منذ أن اتخذ القرار العربي العدواني الأحمق بإملاء أميركي وقضى بتجميد مقعد سورية في الجامعة العربية منذ عام 2011.

انّ إرهاصات عودة العرب وأكثر دقة النظام الرسمي العربي إلى سورية تتزايد وتتكثف (فالعرب شعبياً لم يغادروا سورية على رغم كيد أنظمتهم) وهي عودة أملتها نتائج الحرب الكونية التي حققت فيها سورية وحلفاؤها في محور المقاومة نصراً استراتيجياً تاريخياً، وقد بلغ الأمر درجة يصحّ معها القول إنّ القرار بعودة العلاقات العربية مع سورية إلى طبيعتها قد اتخذ ويبقى الإخراج والنمط والتوقيت فقط.

أمام هذه الحقائق يطرح السؤال عن موقع لبنان في قافلة العودة إلى سورية، بخاصة أنّ لبنان هو صاحب بدعة «النأي بالنفس» الشعار الذي أطلقه استجابة لإملاءات أميركية من أجل أن يسهم بحصار سورية يومها وفقاً لما حدّد له من دور.

وهنا نعود إلى التأكيد أنّ العلاقات المميّزة بين لبنان وسورية هي ركن أساس من أركان السياسة والخيارات الوطنية التي اعتمدها لبنان وكرّست في وثيقة الوفاق الوطني في الطائف، وأنّ هذه العلاقات المميّزة تصبّ أولاً في مصلحة لبنان الذي لا يستطيع أن يستغني عن سورية كونها متنفسه البري الوحيد (إلا إذا كان هناك من يريد أن يفتح الطريق إلى العدو كما يظنّ البعض) بينما تستطيع سورية أن تستغني عن لبنان على رغم ما ينتجه لها هذا الاستغناء من متاعب أمنية وغيرها.

والآن بعد أن غرق لبنان في «جحيمه» المتعدّد العناوين والأشكال باتت حاجته للعودة إلى سورية وتفعيل العلاقات المميزة معها أكثر إلحاحاً من أيّ وقت مضى على الإطلاق، من أجل توفير بعض عناصر القوّة التي تلزمه للخروج من هذا «الجحيم»، بخاصة أنّ في هذه العودة إمكان الاستفادة من القدرات والطاقات السورية في حلّ أكثر من ملف يأتي في طليعتها ملف النازحين، الذين يقول البعض إنهم يكبّدون لبنان نفقات تعادل ثلث ما ينفقه على مواطنيه. ويقول السفير السوري في لبنان إنّ «في لبنان سوريين أكبر من طاقة لبنان» ويجب أن تحلّ هذه المعضلة.

هذا إلى جانب ملفات أمنية وأعمال التهريب على جانبي الحدود فضلاً عن ملفات الكهرباء والغاز والنفط وترسيم حدود المنطقة الاقتصادية والترانزيت إلخ… وهي أمور بدأ الحديث ببعضها بعد أن «أذنت أميركا للبنان» بذلك، وكان لسورية موقف مشرّف بخاصة بشأن نقل المازوت إلى لبنان، حيث وجه «رئيس الجمهورية العربية السورية بشار الأسد بنقل كلّ حاجات المواطن اللبناني من المحروقات وبخاصة المازوت إلى لبنان بسرعة” كما صرّح السفير السوري في لبنان، وقد تمّ النقل كما علم على نفقة الحكومة السورية.

لكن الملف الأهمّ والأدسم يتمثل بملف إعادة إعمار سورية الملف الذي إذا نال لبنان نصيباً منه سيشكل رافعة فاعلة وقوية لاقتصاده على أكثر من وجه وفي أكثر من سبيل، وهنا يطرح السؤال هل يبادر لبنان ويسبق غيره من العرب في العودة إلى سورية لإشغال مقعده الأخوي المتقدّم المميّز فيها أم يتأخر عن الركب ولا يجد عندها من يهتمّ بشأنه؟

إنّ مصلحة لبنان الآن وأكثر من أيّ وقت مضى تفرض المسارعة إلى إحياء نشط للعلاقات مع سورية وتفعيل الاتفاقات الثنائية معها وفي طليعتها اتفاقية الإخوة والتعاون والتنسيق، التي يجب ان يُستأنف العمل بها على أعلى المستويات، حيث نرى أنّ اجتماع قمة بين رئيسي الدولتين سيكون فرصة مناسبة تفتح الطريق أمام لقاءات المسؤولين المتماثلين في الدولتين وتؤسّس للقاء قمة رباعي مشرقي (مع العراق والأردن) سبق أن تحدث فيه الرئيس العماد ميشال عون.

إنّ الحاجة ملحة والمصالح ضاغطة والاتفاقيات الثنائية قائمة والاستجابة السورية حاضرة لتلبية الطلبات اللبنانية، يبقى أن يبادر لبنان لإنقاذ نفسه وصون مصالحه، فهل يفعل قبل هدر وقت إضافي؟

* أستاذ جامعي ـ باحث استراتيجي

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى