أولى

صندوق النقد الدولي: آمال وأوهام…

 بشارة مرهج*

من يعتقد أنّ المفاوضات الفعلية بين لبنان وصندوق النقد الدولي وشيكة ويمكن لها أن تفضي إلى حلول سريعة تخرج البلاد من الانهيار الحاصل وتضعها على طريق التعافي هو مفرط في التفاؤل، إنْ لم يكن واهماً. نقول ذلك لأنّ المفاوضات تستوجب تحضير ملف موثق متكامل للدولة اللبنانية يحدّد الخسائر، وكيفية توزيع الأعباء، إضافة إلى توحيد سعر الصرف وطرح سعر صرف تقريبي، وإنجاز البطاقة التمويلية، وإعطاء إشارات واضحة لإجراءات إصلاحية لا بدّ منها لاستكمال «العقد الفريد»، وإطلاق مسيرة النهوض التي ينتظرها القاصي والداني.

والحكومة حتى الآن لم تنجز بشكل كامل أياً من العناصر المطلوب توفرها لبدء المفاوضات إلا إذا كانت تحجب بعض المعلومات عن الرأي العام الذي لا تثق فيه أصلاً وتتخوّف من إصراره على الشفافية ومعرفة ماذا يجري في الغرف المغلقة.

وإذا كان الجميع يترقب هذه المفاوضات بلهفة فإنّ أوساطاً كثيرة تعتقد ـ وعن حق ـ أنّ نتائجها مهما كانت إيجابية فلن تخاطب الحلّ المأمول وإنما ستكون جزءاً من هذا الحلّ الذي يتعدّى طاقة الصندوق وصلاحياته. فالسلطة تعلم ـ وإنْ كانت تتكتم ـ الحجم المحدود لمساعدات وقروض الصندوق، والذي لا يكاد يوازي ما أنفقته الحكومة السابقة خلال سنة على عملية الدعم التي وصلت «معلباتها وسلعها» إلى معظم القارات بينما استقرّت «أرباحها» في جيوب الاحتكار والفساد.

فالصندوق مساعداته قليلة وحتى قروضه محدودة، ولكن يمكن له إذا وثق بالورقة اللبنانية ولمس الاستعداد للعمل بشفافية والالتزام بمنهج الإصلاح أن يوجه رسالة إلى الصناديق العربية (وهي الأساس) والجهات الدولية كي تغيّر من نهجها السلبي تجاه لبنان، وتبدأ في عملية الانفتاح التدريجي عليه بما يؤمّن له قروضاً ميسّرة (فوائد منخفضة وآجال طويلة) تمكنه من التحرك والبدء في عملية النهوض التي يمكن أن تأخذ عقداً من الزمن أو أقلّ، هذا إذا أثبت الحكام اللبنانيون كفاءتهم وجدارتهم واتّعاظهم من التجارب الرهيبة التي لا تزال تمرّ بها البلاد، وهذا أمر مشكوك به بطبيعة الحال.

وعلى الرغم من تعدّد العناصر المطلوبة للخروج من المستنقع فالأوساط العربية والدولية والمحلية تتوقع أن يركز الصندوق على إنجاز عملية التدقيق الجنائي لحسابات البنك المركزي أولاً ومن ثم حسابات الوزارات والمؤسسات الأخرى في الدولة تالياً. ويُعزى ذلك إلى أهمية وجود بيانات مالية واضحة أمام الصندوق وأمام الجهات الدولية المؤثرة في قراره. فما لم توضع الأرقام الصحيحة على الشاشة وتتوضح مسؤولية كلّ طرف (الطبقة السياسية، المصارف، البنك المركزي) في عملية الهدر والنهب التي تعرّض لها المال العام والخاص فلن يكون بإمكان أحد أن يرسم خريطة طريق مناسبة لمعالجة الأوضاع والتغلب على التدهور القاتل. فهذه الأرقام التي يكتنفها الغموض والالتباس حتى الآن تعرقل عملية تحديد المسؤوليات وتؤثر في سائر القرارات وفي طليعتها القرارات المتعلقة بإعادة هيكلة الدين العام، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، وإعادة الأموال المنهوبة أو المنقولة بالضدّ من القوانين اللبنانية، ناهيك عن عملية المساءلة والمحاسبة التي لا بدّ منها قبل الشروع الحقيقي في عملية الإصلاح والبناء، إذ كيف يمكن الوثوق بلجنة المفاوضات إذا كانت تضمّ في صفوفها من أحرج وأرهق الدولة اللبنانية والهيئات الدولية بمماطلته، وحتى رفضه، تقديم معلومات عن المؤسسة التي يرأس مع علمه بأنّ هذه المعلومات ليست ملكه وإنما ملك الشعب والدولة التي عيّنته في هذا المنصب الخطير، على رغم انهماكه وغرقه بتحضير أوراقه مع محاميه للدفاع عن نفسه في بيروت وأكثر من عاصمة في العالم بعد تعرّضه للاتهام بتهريب الأموال وغسلها، فضلاً عن إدارته المتخلفة للبنك المركزي وطمأنته المزيفة حول قوة الليرة اللبنانية وسلامة القطاع المصرفي وحفظ حقوق المودعين، وكلها وعود ثبت تهافتها وبطلانها.

إن التركيز على المفاوضات مع صندوق النقد الدولي أمر ضروري ويمكن فهمه في حالة لبنان، لكن ذلك ليس كافياً على الإطلاق ولا يعفي الحكومة أبداً من مهماتها الأخرى وفي طليعتها استرداد الأموال المنهوبة، والتحقق من رسملة المصارف، ومكافحة الاحتكار والفساد، وملاحقة اللصوص الذين صادروا أموال الدعم، ورفع يد السياسيين عن القضاء كي تأخذ العدالة مجراها.

إننا إذ نشك في قدرة الحكومة، أو رغبتها، على تحمّل هذه الأعباء نؤكد أن لا بديل من تحرك القوى الشعبية واستنهاض روح تشرين الانتفاضة لملء الفراغ الحاصل، والتصدي لعملية النهب المتواصلة، وتغيير النهج الاقتصادي السياسي المعتمد الذي جلب الأهوال على البلد وأفقر أهله وشرّد شبابه ودفع بسمعة لبنان إلى الحضيض.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نائب ووزير سابق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى