الوطن

تشييع رسمي وشعبي لصباح فخري ونجوم سورية يودّعونه بكلمات مؤثرة.. حمل التراث في وجدانه وسما إلى المدى الأرحب

} إعداد ـ عبير حمدان

ستة عقود من عمر صوت صدح في فضاء الطرب العربي لفنان استثنائي حمل التراث في وجدانه وحنجرته ليسمو إلى المدى الأرحب في رحلة الجسد الأخيرة. خلال مسيرته الطويلة، بلغ الفنان السوري الكبير صباح فخري بصوته عنان السماء انطلاقاً من سورية التي أحبها حدّ التجذر وقيل عنه أنه كقلعة حلب مسقط رأسه.

محمولاً على الأكتاف… ملفوفاً بالعلم السوري، سار جثمان من وصف بـ»أمير القدود والموشحات»، رحلته من أحد مشافي العاصمة السورية دمشق، ليوارى الثرى في إحدى مقابر محافظة حلب شمالي البلاد.

رافق جثمان الفنان الراحل صباح فخري حشد رسمي وشعبي كبير منذ دخوله عبر البوابة الجنوبية لحلب وصولاً إلى مسجد (عبد الله بن عباس) في حي الفرقان، حيث أقام مفتي الجمهورية الدكتور أحمد بدر الدين حسون صلاة الجنازة على روحه.

 شارك في التشييع كل من ممثل الرئيس السوري الدكتور بشار الأسد، وزير شؤون رئاسة الجمهورية، ومحافظ حلب وعدد كبير من المسؤولين.

 استقبلته حلب معلنة حزنها ومتشحة بالسواد، فزيادة عن أن للفن رسالة عالمية احتضنها بدفء صوت الفنان الكبير فخري، لطالما رأى أهالي مدينته العريقة فيه جزءاً من كيانها وشخصيتها العميقة والمتفردة والذواقة.

 مع رحيل أسطورة الطرب الأصيل صباح فخري عن هذا العالم عن 88 عاماً قضاها عاشقاً للفن والموسيقى مجسداً في إرثه الفني الحب والصوفية في آن معاً، طوى الفن السوري والعربي صفحة مجيدة من تاريخه، مختتماً مسيرة مضيئة سطرها الفنان الراحل على مدى 60 عاماً من الإبداع.

عام 2007، كان الرئيس السوري بشار الأسد قد قلد الفنان صباح فخري وسام «الاستحقاق» السوري من الدرجة الممتازة تقديراً لإنجازاته الكبيرة والمتميزة في خدمة الفن العربي السوري الأصيل وإسهامه في إحياء التراث الفني الذي تزخر به سورية والمحافظة عليه.

جهات رسمية نعت الراحل الكبير
وكلمات رثاء من نجوم سورية

وقد نعت وزارة الخارجية السورية الفنان السوري صباح فخري في بيان قالت فيه:» ببالغ الحزن والأسى تنعى وزارة الخارجية والمغتربين قامة سورية استثنائية، وسفير الفن السوري الأصيل إلى العالم الفنان الكبير الأستاذ صباح فخري»، مضيفة: «لقد غدا الراحل الكبير بأعماله الفنية على مدى أكثر من نصف قرن علامة فارقة، ورمزاً للأصالة في عالم الفن والموسيقى على مستوى العالم، فكان أيقونة سورية ترمز إلى حالة الإبداع والإرث الثقافي والفني في سورية التي شدا لها الراحل الكبير أجمل الأغاني الوطنية عربون حب وتجذّر وانتماء للوطن المقدس سورية.»

وختمت البيان: «رحم الله الأستاذ صباح فخري الذي سيرحل عنا جسداً ولكنه سيبقى بيننا أبداً بروائعه الخالدة، وهكذا هي حال الكبار فهم يرحلون، ولكنهم يبقون أكثر حضوراً في غيابهم».

 كما نعت وزيرة الثقافة المصرية إيناس عبد الدايم، المطرب صباح فخري، حيث نقلت صحيفة (الأهرام) عن الوزيرة:»إن الفنان الراحل صباح فخري يعد أحد رموز وأعمدة الطرب العربي الأصيل ونجح على مدار تاريخه الفني المشرق في خلق أسلوب غنائي متفرد جذب قاعدة جماهيرية ضخمة»، مؤكدة أن أعماله «ستبقى أيقونات خالدة في عالم الموسيقي والطرب العربي».

وقدمت عبد الدايم العزاء للشعب السوري ولأسرته وجمهوره ومحبيه وتلاميذه في الوطن العربي. كما نعت الفنان الراحل، كل من وزارة الإعلام السورية ونقابة الفنانين السوريين.

وكانت كلمات مؤثرة من نجوم سورية في رثاء الراحل الكبير، فقال الفنان دريد لحام: «صباح فخري فنان حافظ على التراث العظيم، واستطاع حراسته بأصالة فعندما أسموه حارس التراث كان يستحق ذلك».

وقالت الفنانة منى واصف: «من منا لم يسمع الأذان والقدود الحلبية بصوت صباح فخري، من منا لم ينتش بالقدود بصوته، هو ليس قلعة حلب وحسب بل قلعة سورية، سلام لروحك».

وقالت الفنانة نادين خوري:» كان صباح فخري أميناً على التراث الفني ونقله إلى جميع أنحاء العالم بأمانة وإخلاص، إنه تاريخ وفقدانه خسارة كبيرة لوطننا سورية وللوسط الفني الطربي وسيبقى إلى الأبد مدرسة يتربى عليها أجيال وأجيال».

ورأت الفنانة ليندا بيطار أنّ إرث الراحل مرجعها وملجأها وقالت: «تاريخ الفنان صباح فخري سوف يخلده نتيجة الإرث الذي تركه، وسيبقى مرجعي وملجأي الوحيد بكل ما يخص التراث السوري والموشحات السورية».

من جهته قال الفنان عباس النوري: «صباح فخري صاحب شغف كبير، وفقدانه خسارة كبيرة للفن العربي ولا يمكن تقديرها على الإطلاق بأي ثمن».

واعتبر الفنان أحمد رافع أنّ «صباح فخري لن يتكرر، وهو أيقونة من أيقونات العالم العربي وجوهرة ثمينة لا تعوض»

ورأت الفنانة سلاف فواخرجي أنه فنان بحجم وطن، وقالت:»عندما يقال الفنان السوري هذا يعني صباح فخري، لأنه رمز من رموز البلد، فهو فنان بحجم تاريخ وبحجم وطن».

واعتبره الفنان صفوان العابد «ظاهرة لا تتكرر»، وقال:»صباح فخري حافظ على التراث العربي من الاندثار والضياع، وقضى 70 عاماً من عمره في الغناء العربي الأصيل فهو ظاهرة لا تتكرر».

ووصفه وائل رمضان «بأستاذ الكل»، فقال:»لا يوجد فنان صنع لبلده هذه المكتبة الفنية خلال مسيرة حياته، كما فعل صباح فخري.. الطرب اليوم في ذمة الله، فالراحل كان أستاذ الكل».

وقالت الفنانة سلوى جميل:»صباح فخري إرث كبير جداً فنحن عشنا وتربينا على مدرسته، المعاهد كلها الموجودة في حلب تحمل اسمه فهو علامة ورسول بالفن والفنانين».

تربع على عرش الفن وشهرته ارتبطت بالإرث الفني في موطنه سورية

الفنان الراحل صباح فخري من مواليد حلب 1933، ويعتبر من مشاهير الغناء في سورية والوطن العربي وهو علم من أعلام الموسيقى الشرقية، واشتهر كواحد من أهم مطربي الشرق.

 ظهرت موهبته في العقد الأول من عمره، ودرس الغناء والموسيقى مع دراسته العامة في تلك السن المبكرة في معهد حلب للموسيقى وبعد ذلك في معهد دمشق، وتخرج عام 1948، بعد أن درس الموشحات والقدود والإيقاعات ورقص السماح والقصائد والأدوار والصولفيج والعزف على العود، ليتوج بعدها وعبر تاريخه الفني على رأس قائمة من أنشدوا القدود والموشحات.

ومن أساتذته من أعلام الموسيقى العربية كبار الموسيقيين السوريين كالشيخ علي الدرويش والشيخ عمر البطش ومجدي العقيلي وإبراهيم الدرويش ومحمد رجب وعزيز غنام، وقد كان في شبابه موظفاً في أوقاف حلب ومؤذناً في جامع الروضة هناك.

 والده كان مقرئاً للقرآن الكريم ومنشداً صوفياً، ووالدته من أسرة دينية ذات تقاليد في الإنشاد الديني وحلقات الذكر الصوفي.

التحق فخري بالتعليم في المدرسة القرآنية في حلب، حيث تعلم مبادئ العربية وعلوم البيان والتجويد والدين الإسلامي حتى عام1947.

الموال الأول للفنان الراحل كان «غرد يا بلبل وسلّ الناس بتغريدك» عام 1946، وقد علمته إياه إحدى صديقات والدته، وتتالت جلساته مع صديقات والدته وجاراتها وبدأ يتعلم منهن ما كان يُغنى في تلك الجلسات.

اصطحبه أخوه الأكبر عبد الهادي إلى مجالس الطرب، وهناك تعرف على عازف العود والملحن السوري محمد رجب، فتعلم منه موشح «يا هلال غاب عني واحتجب».

 اختار له عازف الكمان الحلبي الشهير الذي صحبه في عروضه في مختلف المدن السورية اسم محمد صباح.

سمعه الموسيقار محمد عبد الوهاب وقال له:»مثلك بلغ القمة، ولا يوجد ما أعطيك إياه»، وبقي الاثنان صديقين حتى رحيل عبد الوهاب.

وخلافاً للكثير من الفنانين العرب، لم يدرس أبداً في القاهرة أو يعمل فيها، مصراً على أن شهرته مرتبطة بالإرث الفني في موطنه سورية.

من سورية الى العالم
وموسوعة غينيس

 كان حاضراً في السينما والتلفزيون ومن أعماله السينمائية فيلم «الوادي الكبير» مع المطربة وردة الجزائرية، كما شارك في فيلم «الصعاليك» عام 1965 مع عددٍ من الممثلين مثل دريد لحام ومريم فخر الدين، ومن برامجه التلفزيونية «أسماء اللـه الحسنى» مع عبد الرحمن آل رشي ومنى واصف وزيناتي قدسية، ومسلسل «نغم الأمس» مع رفيق سبيعي وصباح الجزائري، حيث سجل ووثق ما يقارب 160 لحناً ما بين أغنية وقصيدة ودور وموشح وموال وكان محافظاً على التراث الموسيقي العربي الذي تنفرد فيه حلب.

لحن وغنّى قصائد عربية لأبي الطيب المتنبي وأبي فراس الحمداني ومسكين الدارمي، كما غنى لابن الفارض والرواس وابن زيدون وابن زهر الأندلسي ولسان الدين الخطيب.

كما لحن لشعراء معاصرين مثل فؤاد اليازجي وأنطوان شعراوي وجلال الدهان وعبد العزيز محي الدين الخوجة وعبد الباسط الصوفي.

 غنى في كثير من المهرجانات، منها «تدمر، المحبة» في سورية، «جرش، شبيب، الفحيص» في الأردن، «بيت الدين»، «عنجر»، «عاليه» في لبنان، «مهرجان الربيع في الموصل» في العراق، «سوسة»، «قرطاج»، «الحمامات»، «القيروان»، «صفاقس» في تونس، «فاس» في المغرب، «مهرجان الموسيقى العربية» في مصر، «مهرجان الموسيقى الشرقية» في فرنسا، «مهرجان الثقافة» في قطر، «مهرجان الفرين الثقافي» في الكويت.

كما غنى باللغة العربية في العديد من الدول في قارات أوروبا وآسيا والأميركيتين وأستراليا.

دخل موسوعة غينيس للأرقام القياسية من خلال غنائه على المسرح مدة تتجاوز 10 ساعات متواصلة من دون استراحة في مدينة كاراكاس الفنزولية عام 1968.

شغل عدة مناصب منها نقيب الفنانين لأكثر من مرة، ونائب رئيس اتحاد الفنانين العرب، وعضو في مجلس الشعب في دورته التشريعية السابعة لعام 1998، وعضو في اللجنة العليا لمهرجان المحبة في اللاذقية، وعضو في اللجنة العليا لمهرجان الأغنية السورية والمدير العام للمهرجان الأول والثامن.

حصد الكثير من الجوائز والتكريمات، لعل أهمها وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة في 12 شباط 2007 في دمشق تقديراً لإنجازاته الكبيرة والمتميزة في خدمة الفن العربي السوري الأصيل وإسهامه في إحياء التراث الفني الذي تزخر به سورية والمحافظة عليه.

وكنوع من الرد المباشر على انحطاط الغناء العربي في معظم نماذجه، أسس صباح فخري معهداً فنياً في مدينة حلب سماه «معهد صباح فخري للموسيقى والغناء» هو الأول من نوعه لجهة طريقة التدريس، وتعليم اللغة العربية والتجويد.

 وخلال الشهر الرابع عام 2019، أقامت وزارة الثقافة حفل توقيع كتاب «صباح فخري.. سيرة وتراث» حضرها الفنان الراحل بنفسه في مكتبة الأسد الوطنية.

تطرق الكتاب لحياة صباح فخري منذ طفولته المبكرة حتى شيخوخته المهيبة، إضافة إلى دراسة عن التراث وكل البيئة المحيطة فيه والأشياء التي ساعدته في تقديم كل هذا الإبداع، والمحطات التي مرّ بها وكيف عمل كرجل منذ أن كان طفلاً.

وضم الكتاب أيضاً إلى كل شيء في حياته، فلسفته وإيمانه ونظريته بالحياة وتصوفه وثقافته ويثقف نفسه بنفسه وحفظه قصائد عديدة عبر مخزونه اللغوي الكبير والثقافي العظيم

تقدير عالمي وحب جماهيري

نال الفنان فخري شهادة تقديرية من محافظ مدينة لاس فيغاس مع مفتاح المدينة، وقلد مفتاح مدينتي ديترويت في ولاية ميشــيغان ومفتاح مدينة ميامي في ولاية فلوريدا مع شــهادة تقديــرية، وأقامت له جامعة U. C. L. A  حفل تكريم في قاعة رويس وقدمت له شهادات التقدير.

أقام له الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة حفل تكريم وقلده وسام تونس الثقافي عام 1975، كما قدم له سلطان دولة عُمان قابوس وسام التكريم في عام 2000.

نال الميدالية الذهبية في مهرجان الأغنية العربية بدمشق عام 1978، وجائزة الغناء العربي من دولة الإمارات.

 كرمته وزارة السياحة المصرية بجائزة مهرجان القاهرة الدولي للأغنية، وكرمه مهرجان ومؤتمر الموسيقا العربية في مصر، وقدّمت له كتب الشكر لمشاركته ومساهمته لعدة سنوات في المهرجانات، التي أقيمت على مسرح دار الأوبرا الكبير ومسرح الجمهورية في القاهرة، ومسرح قصر المؤتمرات في الإسكندرية.

من خلال مشاركته في مهرجان فاس للموسيقا العالمية العريقة في دورته العاشرة لعام 2004، قدّم له رئيس جمعية فاس سايس شهادة تقدير وشكر والعضوية الفخرية لمجلس إدارة المهرجان.

 قدم له محافظ مدينة فاس مفتاح المدينة مع شهادة تقدير وشكر والعضوية الفخرية لمجلس المدينة وهذه هي أول مرة يمنح فيها مفتاح المدينة لفنان عربي أو أجنبي.

قدمت له المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في عام 2004 الجائزة التقديرية، مع درع المنظمة ووثيقة الأسباب الموجبة لمنح الجائزة، لحفاظه على الموسيقا العربية ونشرها.

وقبل عامين من الآن، وقف الفنان الراحل لآخر مرة على مسرح الأوبرا في دار الأسد للثقافة والفنون ضمن الفعاليات الفنية المرافقة لمعرض دمشق الدولي بنسخته الحادية والستين، حيث أحيت الفرقة الوطنية السورية للموسيقى العربية بقيادة عدنان فتح اللـه حفلاً تكريمياً لأحد رموز الفن العربي، أحياه ستة فنانين من تلامذته عبر عدة أجيال، وقدم وزير الثقافة حينها محمد الأحمد درعاً تكريمية للراحل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى