أولى

لماذا نبتعد عن معركتنا الحقيقية؟!

 د. محمد سيد أحمد

ليست المرة الأولى التي نتحدّث فيها عن فقه الأولويات عند تعاملنا مع الأخطار المحدقة بأمتنا العربية ولن تكون الأخيرة بالطبع، فآفة العقل الجمعي العربي هي النسيان، لذلك دائماً ما نحتاج إلى إعادة تذكير هذا العقل الجمعي بالأولويات والمخاطر التي تحيط بأمتنا العربية حتى لا يفقد بوصلته، ويدخل في معارك جانبية ويترك معركته الحقيقية، ويجب أن نعترف بأنّ عدوّنا الحقيقي قد تمكن عبر العقود الخمسة الأخيرة أن يفقدنا بوصلتنا الحقيقية تجاه الأخطار المحدقة بأمتنا العربية، وهو ما زيف وعي الغالبية العظمى من أبناء الشعب العربي، لدرجة جعلت البعض لا يفرق بين العدو والمنافس، بل تمكن العدو من أن يوهم بعض الحكام بأنّ معركتهم ليست معه بل مع الجيران.

وقبل الدخول في تفاصيل المشهد الراهن يجب أولاً التأكيد على بعض الحقائق التاريخية، وأول الحقائق أن إيران دولة من دول منطقتنا جارة تاريخية لها حقوق في جغرافية المنطقة مثل حقوقنا كعرب، وثاني هذه الحقائق تتعلق بتركيا وما ينطبق على إيران ينطبق عليها فهي أيضا دولة من دول منطقتنا وجارة تاريخية لها حقوق مثل حقوقنا، وثالث الحقائق يتعلق بوضع الكيان الصهيوني المغتصب للأرض العربية والقابع على غالبية جغرافية فلسطين وبعض جغرافية الأردن وسورية ولبنان، ولا يزال يطمع في المنطقة الجغرافية الواقعة بين النيل والفرات بالكامل، فهذا الكيان ليس له أي حقوق تاريخية في جغرافية المنطقة، ولا يجب أن يكون موجوداً بيننا أو بجوارنا من الأساس.

وفي محاولة قراءة وتوصيف المشهد الراهن في ضوء الحقائق التاريخية السابقة يمكننا القول إنّ هناك ثلاثة مشاريع تحاول فرض سيطرتها وهيمنتها على منطقتنا في ظلّ التنافس والصراع الإقليمي، ويأتي المشروع الإيراني في المقدمة وهذا المشروع يحاول التمدّد داخل حدود منطقتنا العربية ليس بهدف احتلالها أو سرقة ونهب ثرواتها ولكن بدافع الحفاظ على الأمن القومي الإيراني الذي يهدّد بفعل تغلغل وهيمنة بعض القوى الاستعمارية الغربية على بعض مجتمعاتنا العربية المتاخمة بحدودها مع إيران.

 والمشروع الثاني هو المشروع التركي وهو أيضاً يحاول التمدّد داخل منطقتنا العربية بدوافع مختلفة منها ما هو مشروع مثل الحفاظ على الأمن القومي لتركيا، ومنها ما هو غير مشروع بمحاولة إعادة دولة الخلافة المزعومة وهو ما يُعدّ احتلالاً صريحاً لمجتمعاتنا العربية، وما تقوم به تركيا من احتلال لبعض الأراضي العراقية والسورية خير شاهد وخير دليل، وبالطبع تتعاون تركيا في تنفيذ مشروعها مع بعض القوى الاستعمارية الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية السارق والناهب الأكبر لثروات منطقتنا العربية، إلى جانب الكيان الصهيوني المغتصب للأرض العربية.

وثالث هذه المشاريع هو المشروع الصهيوني الذي يحاول التمدّد للسيطرة على أكبر جزء من منطقتنا العربية بهدف سرقة ونهب ثرواتنا من ناحية واغتصاب تاريخنا من ناحية أخرى، وهو بالطبع مدعوم من بعض القوى الاستعمارية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية الحليف الاستراتيجي لهذا الكيان الصهيوني، ويحاول على مدار الخمسة عقود الماضية اختراق مجتمعاتنا العربية بكلّ الطرق والوسائل، وتمكن من توقيع اتفاقيات سلام مزعومة مع بعض الدول العربية بدأت بكامب ديفيد مصر 1978، وأوسلو فلسطين 1993، ووادي عربة الأردن 1994، ثم اتفاقيات تطبيع أخيراً مع الإمارات والبحرين والسودان والمغرب في غضون الخمسة أشهر الأخيرة من عام 2020.

وإذا كانت هذه هي حقيقة المشهد الراهن فيجب تحديد موقفنا من هذه المشاريع الثلاثة، ويجب أن نحدّد بدقة أولويات المواجهة مع هذه المشاريع، وهنا يجب التأكيد على أنّ المشروعين الإيراني والتركي هي مشاريع منافسة وليست معادية، فالإيراني والتركي جاران ولهما حقوق تاريخية في جغرافية المنطقة، وتأتي محاولات التمدّد والهيمنة منهما بهدف الدفاع عن أمنهما القومي، وهذا أمر مشروع ويمكن مواجهته في حالة بناء مشروع قومي وعربي قوي يحدّ من هذه الطموحات ويقوم بفرملتها، وأيّ محاولة تتجاوز ذلك يجب ردعها وبقوة، أما المشروع الصهيوني فهو مشروع معاد لأمتنا العربية وليس له أيّ حق في جغرافية المنطقة، بالتالي تأتي محاولات سيطرته وهيمنته على حساب أرضنا وثرواتنا ومقدرات شعوبنا، ولا بدّ من مواجهته عسكرياً واقتلاعه من فوق الأرض العربية المغتصبة.

ففقه الأولويات يقول في حالتنا الراهنة إن المعركة الأولى التي يجب أن تخوضها الأمة العربية هي معركة تحرير التراب العربي المدنس بأقدام العدو الصهيوني، ولا يجب أن يصرفنا عن هذه المعركة الحقيقية أي معارك جانبية مع المشاريع المنافسة سواء الإيراني أو التركي، وبعد الانتهاء من المواجهة مع العدو الصهيوني واقتلاعه من الأرض العربية لأنّ معركتنا معه معركة وجود وليست حدود نتجه إلى المشاريع المنافسة، وندخل المعركة الثانية مع من يحتلّ أرضاً عربية ونقوم بتحريرها، ثم ندخل المعركة الثالثة وهي معركة فرض النفوذ في منطقتنا مع الجيران بهدف الحفاظ على الأمن القومي العربي.

 وبالطبع لن نتمكن من خوض هذه المعارك وفقاً لفقه الأولويات إلا بتبديد الوهم الذي زرعه العدو الصهيوني وداعميه في العقل الجمعي العربي والذي صور لنا الجيران والمنافسين على أنهم أعداء، ويصوّر لنا العدو صديقاً وجاراً يمكن التعايش معه في سلام، والخطوة الأولى بعد تبديد هذه الأوهام وكشف زيفها هو السعي بقوة لبناء المشروع القومي العربي لنكون جاهزين لمواجهة المشروع الصهيوني ومنافسة المشروعين الإيراني والتركي، اللهم بلغت اللهم فاشهد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى