أولى

روسيا: حذار اللعب في حديقتها الكازاخيّة أو استفزازها في دوحتها الأوكرانيّة!

 د. عدنان منصور _

 ليس من الصدفة أن تندلع موجات عنف في أنحاء عديدة من كازاخستان، مع مطلع العام الجديد يوم 2 كانون الثاني، لا سيما في عاصمتها الجديدة نور سلطان، وعاصمتها السابقة استانة، بذريعة رفع الدعم عن الغاز المسال للسيارات، وتأثير ذلك على ارتفاع أسعار السلع المختلفة، والأوضاع المعيشية الصعبة.

 موجة اضطرابات أريدَ لها ان لا تتوقف، رغم انّ السلطات الحكومية استوعبت مطالب المواطنين وعادت عن قراراتها في هذا الشأن.

اللافت انّ الأحداث العنيفة لم تشهد كازاخستان مثيلاً لها منذ استقلالها عام 1991 عن الاتحاد السوفياتي. لكن لماذا الآن، وفي هذا الظرف الحساس الذي تتصاعد فيه حدة الخلافات، والنبرة العالية بين روسيا والغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة، حول مستقبل أوكرانيا، ووحدة أراضيها، ونهجها السياسي والأمني! ولماذا هذا التوقيت غير المتوقع في دولة تشكل الحديقة الخلفية لروسيا، والمجال الحيوي والأمني والاستراتيجي لها في آسيا الوسطى، حيث يوجد فيها منذ أكثر من ستين عاماً أكبر قاعدة روسية لإطلاق الصواريخ والأقمار الاصطناعية في موقع «بايكمور».

لا شكّ في أنّ المستفيد الأول من الفوضى والاضطرابات وعدم الاستقرار في كازاخستان، هي واشنطن التي وجهت موسكو الاتهامات والأصابع إليها دون ان تسمّيها. إذ رأت الخارجية الروسية «أحداث كازاخستان الأخيرة في دولة صديقة، محاولة مستوحاة من الخارج لتقويض أمن وسلامة الدولة بالقوة، باستخدام تشكيلات مسلحة مدرّبة ومنظمة».

من جهة أخرى نجد انّ تركيا التي كانت أول دولة تعترف باستقلال كازاخستان عام 1991، وتقيم علاقات دبلوماسية معها، لها مصالح اقتصادية وتجارية حيوية في كازاخستان، حيث تضاعف حجم التبادل التجاري بين البلدين 15 مرة خلال العقود الثلاثة الماضية. كما أنّ الجانبين يعملان حسب تصريح وزير التجارة الكازاخي باكيت سلطانوف، على رفع حجم التبادل التجاري سنوياً الى عشرة مليارات دولار.

 استمرت تركيا في تعزيز علاقاتها مع كازاخستان، الى ان توصلت عام 2009 الى توقيع العديد من العقود والاتفاقيات مع كازاخستان، وذلك في مجال التعاون التجاري والعسكري والثقافي. كما أنشئ مجلس التعاون الاستراتيجي الأعلى بين البلدين، والذي كان له الدور الفاعل في ما بعد، في إنشاء مجموعة الدول الناطقة بالتركية عام 2011، والذي تحوّل في أواخر عام 2021 في قمة اسطنبول الى «منظمة الدول التركيّة».

من هنا تبدو تركيا حريصة على أمن كازاخستان واستقرارها. هذا الحرص أكد عليه الرئيس التركي أردوغان أثناء اتصاله بنظيره الكازاخي قاسم توكاييف، الذي أعرب له عن تضامن تركيا مع كازاخستان، وإنْ كان توكاييف وجد في روسيا التي تدير «منظمة معاهدة الأمن الجماعي» خير معين له ولبلده، في إخماد الاضطرابات التي تقودها ـ على حدّ وصفه ـ عصابات إرهابية دولية، تلقت تدريبات من الخارج، تتحرك لاستهداف أمن البلاد واستقرارها.

 هذا لا يمنع تركيا من أن تطمح كي يكون لها دور في كازاخستان، حيث لم تتوقف عن تزويد كازاخستان بالطائرات المسيّرة والمدرّعات والأسلحة المختلفة، والعمل على إيجاد فضاء تركي لها في آسيا الوسطى، يتحرك بما يخدم مصالحها القومية والاستراتيجية. وما دور أنقرة في حرب أرمينيا وأذربيجان، ودعمها المباشر لباكو، إلا ليصبّ في هذا الاتجاه، وفي الوقت الذي أحجمت فيه منظمة معاهدة الأمن الجماعي عن إرسال قوة عسكرية للتدخل في مساعدة الحليف الأرميني في حربه ضدّ أذربيجان، رغم انّ أرمينيا عضو أصيل في المنظمة.

أما الولايات المتحدة، فمن صالحها أن ترى الفوضى، وإثارة المشاكل، واندلاع العنف، وزعزعة الأمن القوميّ، والمجال الحيوي لروسيا، أكان ذلك في خاصرتها الغربية في أوكرانيا، أو جورجيا، أو بيلاروسيا غرباً، أو في كازاخستان جنوباً، وهي الدولة الرابعة من حيث المساحة في آسيا، البالغة 2.7 مليون كلم٢، بعد روسيا والصين والهند، والتي تتمتع بأكبر اقتصاد في آسيا الوسطى، والغنيّة بالنفط واليورانيوم والحديد والمنغنيز والفحم. فالنفط شكل %21 من إجمالي الناتج المحلي عام 2020. وللإشارة فإنّ حقل «تنغيز» وهو أكبر حقل نفطي فيها، أنتج وحده تلث الناتج السنوي للبلاد، مع العلم أنّ شركة النفط الأميركية «شيفرون» تسيطر على %50 منه.

 لم تمنع «منظمة معاهدة الأمن الجماعي» التي تأسّست عام 2002 بعد الغزو الأميركي لأفغانستان، وتضمّ كلا من روسيا، وأرمينيا، وبيلاروسيا، وكازاخستان، وقيرغيستان، وطاجكستان، رئيس كازاخستان السابق نور سلطان نزارباييف، من فتح الأبواب أمام الغرب منذ سنوات، وبالذات أمام الشركات الأميركية كي تستثمر في مجالات الطاقة.

 واشنطن من جهتها، تريد تحقيق التوازن بينها وبين موسكو في كازاخستان. لذا بدأت الولايات المتحدة بتطوير تعاونها العسكري مع دول آسيا الوسطى مع مطلع التسعينيات، وبعد استقلالها عن الاتحاد السوفياتي. في عام 1994، تمّ توقيع مذكرة التعاون العسكري بين واشنطن وكازاخستان، وبعد ذلك تدعيمها عام 1997 باتفاق للتعاون في مجال التدريب العسكري ومعدات الأمن النووي.

 يبدو انّ الرئيس السابق نور سلطان نزارباييف، الذي حكم البلاد بقبضة من حديد، منذ استقلال بلده عام 1991 وحتى عام 2019، وقبل أن يسلّم السلطة الى خلفه قاسم جومارت توكاييف بعد انتخابات مشكوك في نزاهتها، حيث ظلّ نور سلطان يدير دفة الحكم من خلف الستار، أراد إخراج كازاخستان من التبعية لروسيا، فكانت ملاذاً رحباً للشركات الأميركية والأوروبية، على اختلاف أنواعها، وايضاً مركز جذب للاستثمارات الصينية فيها.

 روسيا المعنية مباشرة بما يجري في كازاخستان، لا يمكن لها ان تفرّط بها، أو أن تترك الخارج يعبث بأمنها القومي. وهي تدرك جيداً انّ اندلاع فوضى عارمة في كازاخستان، وتصاعد التطرف القومي فيها، ووجود متطرفين إسلاميين مرتبطين بتنظيمات إرهابية لا تستبعدها موسكو، او دخولها في حرب أهلية، سيدفع ثمنه الروس الكازاخيون الذين يبلغ عددهم ثلاثة ملايين ونصف المليون من أصل سكان البلد البالغ عددهم 19 مليون نسمة.

لذلك لم تتردّد موسكو لحظة لتلبية استنجاد الرئيس الكازاخي قاسم جومارت توكاييف، الذي وصف المتمرّدين بـ «الإرهاببين»، للمساعدة على وضع حدّ للاضطرابات واعمال العنف والشغب في بلده. لذا سارعت موسكو في إرسال ثلاثة آلاف عسكري تابعين لدول منظمة معاهدة الأمن الجماعي، من روسيا، وبيلاروسيا، وطاجيكستان، وأرمينيا، الذين تولوا حماية مؤسسات الدولة والمنشآت العسكرية والاستراتيجية.

 ما يريح واشنطن وحلفاؤها في الاتحاد الأوروبي، تورّط روسيا في مشاكل جانبية خارج حدودها، على اعتبار أنّ تورّطها وانغماسها العميق بنظر واشنطن والأوروبيين، يضعف زخمها واندفاعها، ويحدّ من نفوذها في بؤرة التوتر في أوكرانيا، ويجعلها بعد ذلك في وضع صعب، مضطرة فيه للمساومة على مواضيع حساسة، وملفات عديدة تهمّ الغرب في الصميم، أكانت في أوكرانيا، او بيلاروسيا، او جورجيا أو غيرها.

 إنّ مبدأ المساومة على أمور تمسّ في العمق المجال الحيوي والأمن القومي لروسيا مرفوض بالمطلق من قبل موسكو، وإنْ ترتب عن هذا الرفض، المزيد من الضغوط والعقوبات الغربية عليها.

 ما لن تتخلى عنه روسيا في أوكرانيا والقرم، وجورجيا وبيلاروسيا، لن تتخلى عنه في دوحتها الجنوبية كازاخستان. فأمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية فوق كلّ اعتبار، ولا يمكن التفريط بها. وما بيّتته واشنطن لموسكو في خاصرتها الجنوبية، أدركته جيداً روسيا وبسرعة، لذلك كان الحسم على الساحة الكازاخستانية عبر وحدة حفظ السلام المكونة من 3600 عنصر، والتابعة لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي، والمعترف بها من قبل الأمم المتحدة.

 لقد استطاعت هذه الوحدة بتدخلها السريع ان تعيد الأمن للبلاد، وتوقف الفوضى، وتضع حداً للتمرّد والأحداث الدامية.

 روسيا من خلال منظمة معاهدة الأمن الجماعي، التي أسّست عام 2009، قوة ردع سريع قوامها 20 ألف عسكري تثبت للعالم، أنه إذا كانت الفوضى والأيادي الخارجية ومن وراءها، قد فعلت ما فعلته في أوكرانيا، وهي لا تزال في مواجهته وتصحيح الوضع فيها، فإنها لن تسمح بأن يجري في كازاخستان ما جرى في أوكرانيا. وما ردّ فعل روسيا الحازم، على الأحداث في كازاخستان الا الجواب الحاسم غير القابل للمساومة او المهادنة او التراجع.

 لقد حسمت موسكو الموقف في كازاخستان، قلب آسيا الوسطى دون هوادة، من خلال تدخلها العسكري، عملاً بمعاهدة الأمن الجماعي، ورسالة حزم وجهتها الى واشنطن وحلفائها، لتقول لهم، إياكم والاقتراب من مجال روسيا الحيوي وأمنها القومي، أكان ذلك في أوكرانيا، او في كازاخستان او غيرهما، وإلا…

*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى