مقالات وآراء

أسباب تعثر الديون المصرفية

} أحمد قاسم

 إن التعثر في الديون المصرفية لا يحصل فجأة”، انما هناك عوامل وأسباب كثيرة تقود الى ذلك، فالتعثر ليس نتاج اللحظة ولكنه ناجم عن العديد من الاسباب والعوامل التي تتفاعل مع الزمن بمهل قد تطول وقد تقصر ولكنها تؤدي في النهاية الى عدم قدرة المقترض على سداد إلتزاماته. وبما أن عملية القرض بحاجة الى عنصرين هما المصرف والمقترض فإن وجود أي خلل لدى أحد الطرفين يقود الى التعثر، ولن ننسى أن هذان الطرفان في العلاقة التعاقدية يعملان في بيئة خارجية محيطة بهما وأي تغيير مفاجئ في هذه البيئة يؤدي في كثير من الأحيان الى تعثر الديون المصرفية، وبالرغم من ذلك ليس من السهل تحديد أسباب التعثر لان لكل دين ظروف وأسباب أدت الى التعثر. لذلك فهناك اسباب تعود للمقترض واسباب تعود للمصرف واسباب تعود للبيئة الخارجية. وفي مقالي هذا سوف اتناول الاسباب التي تعود للمقترض.

 في البدء يجب على المصارف أخذ الحيطة والحذر عند منح القرض وذلك من أجل تجنب الديون المتعثرة، فكثيرا” ما تكون حالة المدين سببا” في التعثر وعلى المصارف ان تضع الأنظمة والقوانين التي تكفل لها جودة المنتج الذي منحته وذلك من أجل الوصول الى الغاية من التسليف وهو تحقيق الارباح، هذا الهدف يصبح بعيد المنال اذا ما حدث التعثر، فالمقترض عندما يتقدم بطلب قرض من المصرف لا بد له من الافصاح عن الغاية التي من أجلها يريد القرض وكذلك لا بد من تقديمه لكافة البيانات التي يطلبها المصرف بشفافية ووضوح وحسن نية، وهذا لا يرفع المسؤولية عن المصرف الذي يعد عمله تجاريا” وعليه واجب التحقق مما ذكر أعلاه من أجل تجنب تضخم الديون المصرفية المتعثرة، ولا يحق له عند وقوع التعثر الادعاء بالخداع لان واجب الحيطة والحذر مفروض عليه بحكم عمله في هذا المجال، لان المصرف عندما يتخذ قرار التسليف تقع عليه إلتزامات وهي إلتزامات وظيفية.

 من هنا سوف نتحدث عن سبب القرض وجدوى البيانات الاقتصادية وعن سوء نية المقترض وطلباته المتكررة .

 أولا”: هل يستطيع المصرف منح قرض بدون سبب؟

 الجواب المنطقي بالطبع لا، لان القرض وجد من أجل سد نقص التمويل لدى طالبه سواء أكان شركة أم مؤسسة أم فرد، وعليه فإنه على طالب القرض بوصفه طرفا” أساسيا” في العلاقة التعاقدية ان يحرص على الافصاح عن سبب القرض. من هنا نرى أن المصارف عند منحها القروض تتشدد في الحصول على سبب القرض.

 يهدف القرض الى تحقيق غاية، فالشركة مثلا” تستدين من أجل سد النقص في الأموال التي تحتاجها للاستمرار او من أجل تطوير وتوسيع أعمالها، والفرد يهدف الى شراء شقة أو سيارة أو زواج أو إجراء عملية أو تعليم أبنائه وغيرها من الاسباب، فالإفصاح عن الغاية من القرض له تأثير كبير على على قرار التسليف، وقد شدد مصرف لبنان على التحقق من غاية التسهيلات ومن حسن استعمالها ومن ملائمتها للمعطيات المتوفرة لديها عن الوضع المالي وحجم أعمال كل منهم، والتحقق من عقود البيع المبرمة بين المالك والمشتري في حال تمويل بناء، لان استخدام القرض لغير الغاية التي منح من أجلها يقود الى التعثر.

 فالغاية هي سبب القرض، وفي العلاقة التعاقدية يعتبر السبب ركنا” من أركان العقد، فالالتزام دون سبب أمر مستغرب ولا يمكن أن يصدر إلا عن مجنون فاقد لقواه العقلية كبائع البيت يهدف الى قبض الثمن والشاري الى تملكه، فوجود السبب أو الغاية هدفه حماية عقد القرض وتوفير مشروعيته وتوافقه مع النظام العام والاداب العامة.

 ينص قانون الموجبات والعقود في المادة 196 على:” أن الموجب الذي ليس له سبب أو له سبب غير صحيح أو غير مباح يعد كأنه لم يكن….”، من هنا نجد أن عنصر السبب او الغاية أساسي في عقد القرض، والمصرف يجب عليه قبل إعطاء الموافقة على القرض الاستعلام عن الغاية من القرض، مع العلم أن نماذج القروض في المصارف تحتوي على بند سبب القرض وذلك لتبيان الغاية منه، فاذا كانت غايته غير مشروعة كتمويل عمليات إرهابية أو أشياء مخلة بالاداب العامة أو لاخفاء افلاس المقترض وجب على المصرف رفض طلب القرض، وموجب الافصاح عن الغاية ملقى على عاتق طالب القرض ويرتب عليه مسؤولية تقصيرية في حال مخالفته.

 تتعرض المصارف بنوعيها التجاري والاسلامي لهذه المخاطر، وان بنسب أقل في المصارف الاسلامية كونها تقوم بعمليات حقيقية من مرابحة ومضاربة واستصناع وسلم وغيرها من الصيغ التي تكون الغاية من التسليف واضحة، ويكون المصرف طرف أساسي في العملية، اذ يقوم هو بنفسه مثلا” بشراء السيارة أو المنزل أو تمويل المشروع أو تمويل الاستصناع، وبعدها يقوم بتحويل الملكية الى المقترض، فلو افترضنا انه رغم كل الاجراءات المتبعة وجد المصرف الاسلامي ان الغاية من القرض غير شرعية او حرفت عن مسارها الاساسي، هنا يستطيع المصرف الغاء عقد القرض وابقاء الملكية في حوزته مما يؤدي الى تخفيض المخاطر، بعكس المصرف التجاري الذي يقوم بتسليم الاموال الى المقترض وعند وقوع المشكلة تكون قدراته في حال ضعف الضمانات ضعيفة لتحصيل القرض.

ثانيا”: ما جدوى البيانات الاقتصادية المقدمة من القترض؟

 يجب على المصرف دراسة الجدوى الاقتصادية للقرض المطلوب دراسة جيدة وواقعية، فاذا كانت الدراسة قائمة على افتراضات غير واقعية، كأن تكون هناك مبالغة في تقدير الايرادات أو تقليل النفقات، أو كانت هناك اختلالات في التدفقات النقدية للمشروع، فان ذلك سيؤدي الى انحراف القرض عما هو متوقع في دراسة الجدوى الاقتصادية مما يؤدي الى تعثر القرض الممنوح. لذلك فإنه يتوجب على المصرف ان يتأكد من الجدوى الاقتصادية المقدمة له للتأكد من سلامتها وسلامة الفرضيات التي قامت عليها، وكذلك التأكد من العائد الذي ينتجه المشروع بشكل يفوق معدل كلفة الأموال المقترضة.

 في قروض التجزئة (سكنية، استهلاكية، سيارة، بطاقات ائتمان…) فانّ تحصيل البيانات وبشكل كامل وصحيح يخفف المخاطر ويؤدي الى تسليفات جيدة وذو مخاطر قليلة. فعلى سبيل المثال اذا تقدم شخص من المصرف من أجل الحصول على قرض من أجل شراء سيارة مثلا” أو قرض استهلاكي يتوجب عليه تقديم بيانات صحية كالهوية وافادة سكن أو فاتورة تلفون أو فاتورة كهرباء أو مياه تثبت عنوانه، بالاضافة الى إفادة بالراتب للموظفين في القطاع العام أو الخاص، أو بيان بالمدخول للمهن الحرة، والذي يستطيع المصرف من خلال دراستها بشكل جيد من الوقوف على إيرادات طالب القرض ونفقاته وكل ذلك من أجل الوقوف على وضعه المالي وما اذا كان قادراً على تسديد القرض وفوائده في المدة المتفق عليها.

 أما في القروض التجارية، فأنه يتوجب على الجهة طالبة القرض التقدم بالمستندات التي تثبت صحة قيامها وتسجيلها في السجل التجاري ونظامها الأساسي والاذاعة التجارية ونوع الشركة ومركزها، بالاضافة الى بيانات المالية لآخر ثلاث سنوات للجهة طالبة القرض.

 فالبيانات والمعلومات الصحيحة تعكس وضع المقترض وهي الأساس الذي يبني عليه المصرف قراره بالموافقة أو الرفض، اذ ان اخفاء معلومات مهمة عن المصرف أو تقديم معلومات غير صحيحة ستنعكس بشكل سلبي على القرض وتقود الى التعثر.

 وهذا ما أكده مصرف لبنان حينما أكد على تحليل البيانات المالية وتقييم قدرة العميل على سداد القرض بناء على معلومات حول وضعه المالي الحالي والسابق والتوقعات المستقبلية من خلال دراسة التدفقات النقدية الحالية والمستقبلية، ومراقبة حجم المبيعات والايرادات، وهامش الربحية ونسبة الاستدانة، والرأس المالي التشغيلي، وقيمة الموجودات والقدرة الى تسييلها الى نقد، والأهمّ وهو على عاتق المقترض الشفافية في تقديم البيانات الصحيحة. وكذلك أكد في التعميم اللاحق عنه رقم 81 تاريخ 21/2/2001 على تقييم الجدوى الاقتصادية للعمليات لجهة مردودها المستقبلي.

 في النهاية لا بدّ من الاشارة الى أنّ تقييم الجدوى الاقتصادية تعتمد على شفافية المقترض ومصداقيته وقدرة المصرف على التأكد من البيانات المقدمة، اذ كلما كانت البيانات قريبة من الحقيقة كلما انخفضت المخاطر، وهي تطال المصارف الاسلامية والتجارية على حد سواء.

ثالثاً: ما هو تأثير سوء نية المقترض على الموافقة؟

 سوء النية محتمل الوجود في كافة العقود وهو يأخذ أشكال مختلفة كإخفاء عيب في المنتج في عقود البيع أو التأخر في انجاز الاعمال في عقود الاستصناع أو إخفاء بيانات عن المصرف في عقود القروض، كذلك فإنّ طلبات المقترض المتكررة لتجديد التسليفات تنذر بوجود مشكلة لدى طالب القرض يحاول إخفاؤها مما يؤدّي الى التعثر.

 فسوء النية لدى المقترض تتحقق عندما يتقدّم ببيانات غير واقعية عن أعماله أو ببيانات مزوّرة من أجل الحصول على القرض، كذلك يحصل سوء النية عندما يتعمد المقترض عدم سداد السندات المستحقة عليه مع قدرته على ذلك، أو عندما يحصل على القرض ويهرب الى خارج البلاد، كذلك إشهار المدين لإفلاسه عندما تزداد مديونيته وتتفاقم ديونه.

 انّ قيام المقترض بتقديم بيانات غير صحيحة ودقيقة للمشروع والاعتماد على الدراسات الخاطئة سوف يؤدّي الى التعثر. وسوء النية لدى المقترض يكون أكثر ضرراً في المصارف الاسلامية من المصارف التجارية، ذلك أنّ الأولى تقوم بفرض فوائد تأخير إضافية على المبالغ المتعثرة، اما في المصارف الإسلامية فتعتبر المماطلة من أهم المشكلات والعقبات التي تواجهها لانّ العميل السيء النية الذي يقوم بتأخير تسديد دينه وهو موسر لعلمه ان تلك المصارف لا تفرض غرامات تأخير حتى يستفيد بشكل أكبر من الأموال الموجودة لديه وبالتالي يحرمها من إعادة استخدامها وتحقيق أرباح اضافية.

 كذلك يعتبر من سوء النية، عدم التزام المقترض بارشادات وتوجيهات المصرف سواء أكان مصرفا” تجاريا” ام اسلاميا”، لأنّ الواجب يحتم عليه التقيد بتعليمات المصرف وتوجيهاته لجهة الالتزام بسداد الدفعات في مواعيدها وهو الأهمّ لأنّ عدم الالتزام به سيقود الى التعثر، وكذلك عدم الفصل بين أمواله الخاصة وأموال المشروع الذي يديره مما يؤدي الى استخدام جزء من الاموال المقترضة للمشروع لحاجاته الشخصية وهذا سيؤدي بالتأكيد الى استهلاك جزء من اموال المشروع واصابته بالاعسار وبالتالي تعثر الدين.

 وتكيدا” على ذلك، أصدر مصرف لبنان تعميمه الرقم 134 تاريخ 12/2/2015 حيث فرض في البند الثاني من الملحق على المقترض سواء أكان المصرف تجاري أم اسلامي وذلك من أجل تعزيز الثقة وتقديم البيانات الصحيحة والابتعاد عن سوء النية، لضمان تخفيض نسبة الديون المتعثرة ما يلي:

“1- تقديم معلومات صادقة وكاملة ودقيقة عند تعبئة اي نماذج خاصة بالمصرف أو بالمؤسسة المالية والامتناع عن تقديم اي معلومات خاطئة.

2- الإفصاح عن التزاماته المالية كافة” عند تقديم طلب الحصول على منتج او خدمة مع حفظ الحقوق التي يمنحها اياه قانون سرية المصارف.

3- تحديث المعلومات الشخصية المقدمة الى المصرف او المؤسسة المالية بشكل مستمر وكلما طلب منه ذلك.

4- التقيّد بالشروط والاحكام التي ترعى المنتج الذي يستفيد منه.

5- في حال اكتشافه عمليات مجهولة على حسابه إبلاغ المصرف او المؤسسة المالية بذلك على الفور.

6- تزويد المصرف او المؤسسة المالية بعنوان سكنه وعنوان بريده الالكتروني والعادي ورقم هاتفه والإبلاغ عن اي تعديل لهذه المعلومات مما يمكن المصرف او المؤسسة المالية من الاتصال بالعميل المعني بشكل يؤمن خصوصية المعلومات الخاصة به”.

 عملياً، وبالرغم من هذه الاجراءات التي يقوم بها مصرف لبنان الا انها حتى الآن لم تحد من هذه الأسباب التي تعود الى سوء نية المقترض، ووجدنا كيف استطاع العديد من العملاء الاستفادة من القروض السكنية وبطاقات الائتمان بالاستناد الى افادات رواتب وهمية خصوصاً لموظفي القطاع الخاص حيث كانت هناك عملية تواطؤ بين ارباب العمل والمستخدمين الوهميين لكي يتم الحصول على افادات رواتب مقابل بدلات. وهذه الاجراءات مهمة جدا” وتهدف الى حماية الطرفين.

رابعاً: ما مدى تأثير طلبات المقترض المتكرّرة على الموافقات؟

 إنّ الطلبات المتكررة للمقترض دون وجود مبرّر لها تعني ارتفاع حجم مديونية المقترض وتعطي مؤشراً على التعثر، فالتوسع في الاقتراض يزيد من عبء المديونية ويرفع من نسب المخاطر، لذك فإنّ اعتماد العميل بشكل متكرّر على الاقتراض يزيد من عدم انتظام تدفقاته النقدية وأرباحه من فترة مالية الى أخرى، لذلك لا يجوز منح العميل تسهيلات إضافية إلا إذا توفرت المبررات المقنعة لذلك من حاجة المشروع الفعلية للتمويل ومدى الاثر الذي يحدثه التمويل الإضافي على إمكانيات القرض الأصلي والقرض الإضافي، مع ضرورة احتساب قيمة الضمانات المتوفرة لدى المصرف لتغطي كامل المبالغ.

 هذه الطلبات المتكرّرة تطال المصارف التجارية اكثر من المصارف الإسلامية، وعادة تعمد المصارف الى وضع سياسات للحد من هذه المخاطر عن طريق فرض سياسات على المتعاملين معها لمنعهم من الطلبات المتكررة، فعلى سبيل المثال في القروض الشخصية تطلب منهم تسديد ثلثي القرض من أجل السماح للمقترض بالتقدم للاستفادة من قرض جديد، اما في القروض التجارية فتطلب منهم تقديم بيانات جديدة للوقوف على مدى الحاجة الى الأموال المطلوبة ومدى تأثيرها على المشروع وإنتاجيته بحيث اذا تأكدت من لزوم التمويل عمدت الى منحه على شرط ان تكون الضمانات كافية لتغطية المخاطر القديمة والجديدة.

 في الختام نجد انّ هذه الاسباب تقوم المصارف بدراستها بعناية من اجل تجنب تشكل الديون المتعثرة، وفي حال عدم الالتزام بها تحت تأثير الضغوط المتنوعة سوف يقود الى تعثر القروض وبالتالي الى تعثر المصارف.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى