مقالات وآراء

موسكو والصقيع الغربي

} علي عز الدين*

الأميركي المحطم من تكرار هزائمه في منطقتنا، وفي الإقليم الجغرافي الممتدّ حتى غرب آسيا، بعد انكساره في سورية والعراق، واختراق قراراته في لبنان عبر كسر طغيان «قانون قيصر»، ثم اتخاذه القرارات الصعبة في فيينا، انسحابه من أفغانستان وما تلاه من تداعيات على السياسة الخارجية الأميركية عالمياً بعد انتهاء ولاية ترامب والذي ترك ألغاماً دبلوماسية شائكة لخليفته جو بايدن، ما زال يتخبّط بها من اليمن الى إيران مروراً حتى غرب آسيا بأكملها…

ما حدث في كازاخستان من انتكاسة كبيرة للمخطط الغربي، أُسقِط المشروع بدخول قوات من منظمة التكتل الآسيوي وهي أشبه بناتو صغير يضم دول مجاورة لروسيا، معاهدة طشقند أعطت للدول الأعضاء ثقة كبيرة بقوة هذا الحلف في منطقة آسيا الوسطى، أرسل القيصر بوتين رسالة واضحة وقوية الى الغرب بأنه عازمٌ على بسط الأمن على حدوده وحدود الدول الأعضاء في المنظمة..

فبعد تدخله في سورية، بموافقة مجلس الاتحاد الروسي باستخدام القوات الروسية خارج البلاد، أتى الدور تالياً لإسقاط المشروع الغربي لتخريب كازاخستان.

ما يعنينا من هذه المقدمة موضوع أوكرانيا.

ضعف إدارة بايدن وتعثره الدائم وتدني شعبيته وشعبية نائبته في الإحصاءات الأميركية فتح شهية الرئيس الأسبق للتحرك ونحن أمام الانتخابات النصفية المقبلة نهاية العام الحالي، الحزب الديمقراطي يحسّ بالخطر من هزيمة مرتقبة أمام الجمهوريين… برز تيار كلينتون والذي أعطى المؤسسات دوراً بارزاً في صياغة المشاريع السياسية الكبرى (هيلاري كلينتون)، مدعومة من مجمع الكونغرس المالي والذي يملك شركات تصنيع الأسلحة، هذا الثنائي: كلينتون + شركات السلاح من الأكثر عداءً لروسيا وتشجيعاً للحرب الباردة، وأبرز المُعادين للصين، الانقسامات داخل أروقة القرار في أميركا ما بين داعمٍ لإقرار عقوبات على القطاع المصرفي الروسي رداً على الحشود العسكرية الروسية على الحدود خوفاً من غزوروسي محتمل، وبين الأصوات الداعية لتجاهل الأمر لأسباب متعددة أهمّها عدم فتح جبهة جديدة لعدم جدواها، وعدم جدوى التوتر مع روسيا والتركيز على الملف الصيني ومحاولة وقف صعود التنين وعرقلة مشاريعه خارج حدوده، والاكتفاء بدعم أوكرانيا لوجستياً وعسكرياً وإمدادها بالخبراء والإستشاريين العسكريين والامنيين (بلغ عددهم حسب نيويورك تايمز حوالي 150).

من جهة ثانية ومن ضمن الضغوطات غير العسكرية، سمعنا عن لسان الخارجية الأميركية أنّ العقوبات على روسيا سابقة لأوانها لأنها غير رادعة، ولم تُقرّر الاّ إذا تمّ الغزو الروسي لأوكرانيا، كمحاولة أميركية للضغط على المُفاوِض الروسي للقبول ببعض الشروط وحثّه للتنازل عن شرطَيه الأساسيين وهما: التعهّد بعدم توسع حلف الناتو شرقاً، على حساب الدول الأوروبية والتي كان بعضها جزءاً من الاتحاد السوفياتي سابقاً، وسنأتي بعد قليل على ذكر هذه النقطة المهمة.

أمّا ثاني الشروط فهو عدم نشر صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى في أوروبا قريباً من روسيا وإزالة النيّات العدائية بشكل نهائي.. التحذيرات الروسية بأنّ ايّ تصرف أُحادي أميركي ضدّ موسكو سيُقَابَل بانهيار تامّ للعلاقات بين القطبين..

فبالرغم من كلّ التجييش الغربي إعلامياً ودبلوماسياً المُوَجه ضد روسيا، الاّ أنّ بوتين كذّب هذه الادّعاءات بعدم وجود نوايا روسية بغزو أوكرانيا رغم الحشود العسكرية على الحدود الغربية…

إنّ النظرية الأميركية التي تُنادي بالحدّ من التسلح وتقليل المخاطر ورفع أنظمة الصواريخ هي دعوة للأوروبي للانضمام المباشر لتشكيل جبهة موحدة تقف بوجه الجَلادَة الروسية ولمنع توسع بوتين، هذه الدعوات الأميركية تُعطي إشارات واضحة عن نوايا إدارة العام سام لإشغال الروسي بشكل دائم بالمشاكل وإدخال الأوروبي كمواجه للروسي للتفرّغ للملف الصيني.. لكن ما حدث في الهند من تصريحات ألمانية عبر لسان أحد كبار القادة العسكريين أوحى للأميركي بأنّ التوجه الأوروبي (عدا لندن وبعض الدول)، مغاير عمّا يشتهي بايدن.. أنّ ألمانيا بحاجة لروسيا وللهند لمواجهة الصين، وكما نعلم معاناة الدبلوماسية الألمانية لسنوات طوال مع أميركا لمدّ خط الغاز المُسيل لألمانيا «نورد ستريم 2»، رغم المعارضة الأميركية لهذا المشروع، لم يسلم أيضاً من التجييش البروباغندي بأنّ موسكو سوف تقوم بالابتزاز واستخدام سلاح الطاقة كورقة ضغط على الغرب وهذا ما قللت من أهميته ونفته موسكو بشكل قاطع…

انّ اربعين في المئة من الغاز الروسي يمرّ في الأراضي الاوكرانية ومن حق روسيا حماية استثماراتها الخارجية عبر قوانين التجارة العالمية، وعبر القانون أيضاً، ان أوكرانيا ليست دولة داخلة في حلف الناتو يعني هي خارج خدمات الحماية والدفاع ولا يحق للناتو نشر قواته على أراضيها..

كيف يُفكر الغرب وأميركا على المدى الطويل؟ ولنأخد نحن العرب أو ما تبقى من عروبة الدروس الأكثر أهمية..

الحرب الكونية على الجمهورية العربية السورية: من أحد أسبابها إرادة الأميركي استجرار خط غاز قطري عبر أراضيها الى اوروبا لتقويض ميزانية روسيا عبر إيجاد بديل لمشاكل الطاقة لأوروبا، تدخل محور المقاومة والدعم الجوي الروسي أسقطا المشروع…

ثانياً: عمدت أميركا عبر سطوة صندوق النقد لتعويم فكرة مشروع «الشام الجديدة»، جزء منها كمثال صغير ما يحدث في العراق، عبر ما يُسمّى صندوق الاستثمار العراقي ـ الأميركي، عبر مدّ خط انبوب من نفط البصرة الى ميناء العقبة، الهدف الخفي هو إيصاله بطريقة آمنة الى البحر الأحمر حيث يدخل هناك ضمن أجندات كثيرة وكبيرة..

التفكير الاستراتيجي للغرب المتوحش من ورائه أميركا فيه عِبرة ودروس لنا لنكون أصحاب مبادرة إبداعية فاعلين غير منتظري الفعل من أعدائنا لنقيم ردود فعلنا، رغم وجود الكثير من مراكز الأبحاث في بلادنا هناك قلة ممّن يؤخذ بآرائهم ودراساتهم..

القرم ذهبت ولم تعد، الأوكراني سوف يُترك وحيداً مرة ثانية كما حدث منذ سنوات سبع وأكثر، كما تُرِكَ البولندي يواجه مصيره في الحرب العالمية أمام الهجوم النازي المُدمّر رغم الوعود بالتدخل لنصرته، التاريخ يعطينا دروساً جمّة، وهذا ما فهمه وزير خارجية أوكرانيا بإعلانه بأنّ بلاده لا تريد من الناتو أن يحارب الى جانبها، بل العمل على تعزيز قدرات بلاده العسكرية، يعني بلا الدعم الخارجي لأوكرانيا لن تصمد عسكرياً ولا دبلوماسياً وستجد طريقة للتنازل أمام القدرة الروسية..

لنأخذ عبراً من التاريخ القديم والحديث ونُبقي أعيننا على أوكرانيا وحدودها، على بيلاروسيا ولاتفيا، ليتوانيا واستونيا لاحقاً، العين الأميركية لا تغفل عن مدّ شرورها لكلّ من يقف بوجهها..

الأيام المقبلة حُبلى بالمفاجآت على مستوى الملف الروسي ـ الأوكراني على صعيد منطقتنا، الأميركي يمتلك شخصية راعي البقر حتى لو بدّل ملابسه..

العقيدة العسكرية الروسية هي الردّ على الاعتداءات حتى لو اضطر لاستخدام الأسلحة النووية، وعدم البدء بالحرب كما أعلن فلاديمير بوتين سابقاً أثناء مشاركته في الجمعية الحوارية  valdai في سيببريا…

*كاتب ومحلل سياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى