أولى

الصراع في لبنان بين تحدّيين: انتخابات للغلبة وفراغ للإقصاء

د. عصام نعمان*

المشهد اللبناني كان ولا يزال قاتماً. اللبنانيون مثقلون بالأزمات والانهيارات والاضطرابات. لا ضوء بعدُ في نهاية النفق. يزداد المشهد قتامةً بتحدّيين يواجهان البلاد والعباد: انتخابات نيابية يقتضي إجراؤها في منتصف شهر أيار/ مايو المقبل، وفراغ سياسي يسعى اليه متضرّرون يرجّحون أن تأتي نتائجها في غير مصلحتهم ما يحملهم بالتالي على إرجائها حتى لو اقتضى الأمر إسقاط حكومة نجيب ميقاتي وإغراق البلاد في اضطرابات أمنية قد تتطور الى حرب أهلية.

لماذا يتمسك كلّ من أنصار إجراء الانتخابات ودعاة إرجائها بموقفه الحالي؟ وكيف يسعى كلّ من الفريقين الى تحقيق هدفه؟

تجدر الإشارة، بادئ الأمر، الى حقيقة ساطعة هي أنّ كِلا الفريقين ينطويان على تركيبة مختلطة. فالفريق المصرّ على إجراء الانتخابات يضمّ أطرافاً غير متحمّسة لها، والفريق الساعي لإرجائها يضمّ أطرافاً قد تعدّل موقفها لتصبح مؤيدةً لإجرائها.

بعد حوارات واستقصاءات أجريتها مع مفكرين وقياديين وناشطين في أوساط كلٍّ من الفريقين خرجتُ بانطباعات وخلاصات على النحو الآتي:

الفريق الداعي والمتحمّس لإجراء الانتخابات (أبرز أطرافه حزب الله) تهمّه المحافظة على قوّته السياسية الراهنة ويعمل لتعزيزها ويشعر بأنه قادر، مع حلفائه، على زيادة عدد مقاعدهم في مجلس النواب وتحقيق غَلَبة برلمانية تمكّنهم من الاحتفاظ برئاسته، وبتمرير مشاريع القوانين التي يريدونها، ومن امتلاك الغالبية اللازمة لتأليف حكومة مؤيدة لأهدافهم وسياستهم. ولا يتوانى هذا الفريق عن اتهام الولايات المتحدة وبعض الدول الخليجية بدعم خصومه سياسياً ولوجستياً للفوز بغالبية برلمانية لضمان إقصاء حزب الله وحلفائه عن الحكومة الجديدة كما لتجريد المقاومة من سلاحها او وضعه، في الأقلّ، تحت سلطة الدولة. غير أنّ بعض أطراف هذا الفريق يتخوّف من ان يؤدّي الدعم الأميركي والخليجي لخصوم حزب الله وحلفائه الى فوزهم بغالبية مرجحة في الانتخابات، فتراهم يعودون الى تبني الرأي القائل بجدوى تأجيل الانتخابات والتمديد تالياً لمجلس النواب الحالي مدة سنة أو أكثر.

الفريق المقابل المتخوّف من أن تأتي نتائج الانتخابات في غير مصلحته يسعى الى أرجائها بدعوى انّ انتصار خصومه فيها المدعومين سياسياً ولوجستياً من إيران قد يشجعهم على تغيير النظام السياسي والاقتصادي الراهن وإلحاق لبنان بمحور الممانعة والمقاومة، الأمر الذي يدفع «إسرائيل»، بدعمٍ من الولايات المتحدة، الى شنّ حرب على البلاد تقضي على ما تبقّى من مقوّماتها. أبرز أطراف هذا الفريق حزب القوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع الذي يسعى الى إعادة تعبئة خصوم حزب الله، لا سيما بعد إعلان سعد الحريري تعليق عمله السياسي وعزوفه وحزبه وأعضاء كتلته البرلمانية عن خوض المعركة الانتخابية.

في هذا السياق يشعر كِلا الفريقين بأنّ خروج سعد الحريري من حلبة الصراع قد يدفع كثيرين من أهل السنّة والجماعة الى مقاطعة الانتخابات، خصوصاً بعد تردّي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وشعور اللبنانيين عامةً وفقراء الطوائف الأخرى خاصةً بالقرف من كلّ ما يتصل بالسياسيين وأهل السلطة. كلّ ذلك دفع أقطاب الطوائف الأخرى، لا سيما المسيحية منها، الى مناشدة مراجع أهل السنّة وأعيانهم عدم مقاطعة الانتخابات. رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ذهب بنفسه الى دار الإفتاء وناشد المفتي الشيخ عبد اللطيف دريان بذل كلّ ما في وسعه لحمل أبناء طائفته على عدم المقاطعة لكونها تسيء الى وحدة لبنان وتنوّعه السياسي. قبله كان سمير جعجع ورئيس حزب الكتائب سامي الجميّل قد أطلقا مناشدة مماثلة. هذا بالإضافة الى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الذي استقبل في السراي المفتي دريان ثم اصطحبه الى أداء صلاة الجمعة في المسجد العمريّ بعد التصريح بأنه لن يقاطع الانتخابات ويصرّ على إجرائها في موعدها نائياً بنفسه عن رئيسَيْ الحكومة السابقين تمام سلام وفؤاد السنيورة اللذين كانا أعلنا عدم خوض الانتخابات.

ثمة عامل آخر له دوره وفعاليته في مسألة تثبيت إجراء الانتخابات او إرجائها. انه الولايات المتحدة التي كانت اندفعت في مسار تشجيع تنظيمات المجتمع المدني غير الحكوميّة NGO على خوض الانتخابات بمرشحين من صفوفها باستقلال عن أحزاب السلطة، وقامت بدعمها لوجستياً بسخاء. كلّ ذلك بقصد تمكينها من الفوز بما لا يقلّ عن 25 مقعداً نيابياً يكون من شأنها، في ظنّ واشنطن، الإخلال بميزان القوى الحالي داخل البرلمان باتجاه تكوين تكتل يحول دون هيمنة ثالوث عون ـ بري ـ حزب الله على السلطة التشريعية.

يتردّد الآن أنّ الموقف الأميركي الداعي الى إجراء الانتخابات قد يتغيّر وذلك في ضوء التطورات الأخيرة السالفة الذكر ونتيجةَ استطلاعات رأي جرت وكشفت 3 أمور مستجدة: الأول تراجع نسبة التأييد الشعبي لتنظيمات المجتمع المدني لأسباب عدّة أهمّها عجزها عن الاتفاق والائتلاف في تكتلات موحّدة. الثاني ازدياد عدد الناخبين «القرفانين» والعازمين على عدم التصويت في الانتخابات المقبلة. الثالث نجاح حزب الله في المحافظة على قوته الانتخابية رغم التطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الأخيرة. كلّ ذلك يدفع الولايات المتحدة الى تليين موقفها باتجاه الموافقة على خيار التمديد لمجلس النواب لتفادي خروج الثالوث آنف الذكر من الانتخابات بعدد أكبر من النواب يمكّنه من تعزيز نفوذه في الحكم وأروقة السلطة.

الى ذلك، يتردّد أيضاً في أوساط كِلا الفريقين المتصارعين انّ الولايات المتحدة تقوم حاليّاً بوضع استراتيجية جديدة لتموضعها في غرب آسيا بعد خروجها المهين من أفغانستان وانها ربما تعتمد مقولة «أفضل طريقة للدفاع هي الهجوم» الأمر الذي يستدعي عدم سحب قواتها من العراق وتعزيز قواعدها العسكرية في سورية كما تعزيز دعمها لحلفائها من الأكراد السوريين المتمرّدين على الحكومة المركزية في دمشق، وتعزيز دعمها للكيان الصهيوني خاصةً إذا تمّ إحياء الاتفاق النووي مع إيران، كما إعادة دعمها لتنظيم «داعش» بقصد تشجيع كلّ القوى المتمرّدة على نظامي الحكم في العراق وسورية وعلى تصعيد مناهضتها لهما مباشرةً من جهة، ومن جهةٍ أخرى الالتقاء مداورةً مع «إسرائيل» من جهة أخرى في خطتها الرامية لمنع إيران من التموضع عسكرياّ في بلاد الرافدين وبلاد الشام لتهديد أمنها القومي.

يتضح مما تقدّم بيانه انّ المشهد اللبناني وغيره من المشاهد السياسية في دول المشرق العربي لا تزال في حال اهتزاز وتقلّب وأنّ مياهاً كثيرة معتكرة ستجري تحت الجسور الهشّة قبل التوصل الى استقرار.

ــــــــــــــــــــــــــ

*نائب ووزير سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى