مقالات وآراء

لا حلّ في لبنان إلا بنظام لاطائفي…

} أنطون سلوان

في السابع عشر من تشرين الأول 2019، انطلقت في لبنان شرارة ما يسمى “ثورة” كردّ فعل على تلويح وزير الاتصالات بإضافة رسم رمزي على الاتصالات من خلال تطبيق واتس أب المجاني. فأُحرقت الإطارات وقُطعت الطرقات وأُقفلت المؤسسات على اختلاف أنواعها من مصارف ومدارس وجامعات وأصاب البلد الشلل التامّ، ولكن الناس كانوا على استعداد للتضحية بحريّة الحركة والتنقل وبأيام تدريس لأبنائهم ومن أجل تحقيق مطالب أسمى ووضع الأمور على مسارها الصحيح.

قبل أن تسدل الثورة ستار الإقفال القسري العام، كانت المصارف اللبنانية لا تزال ترفد المودعين لديها بما يحتاجونه من سيولة نقدية بالعملة الوطنية أو بالعملات الأجنبية رغم بعض الإشارات بأنّ الوضع المالي لم يكن على ما يُرام. ولكن بعد انتهاء الإقفال القسري للمصارف الذي استمرّ لأكثر من أسبوعين، فوجئ المودعون بأنهم غير قادرين على الحصول على أموالهم التي أودعوها أمانة في المصارف والتي هي حق لهم، على المصارف إعادتها لهم كما أودعوها وبالعملة التي أودعوها ولذلك تسمّى “وديعة” ما معناه في اللغة “الأمانة أو ما استودعته لتستردّه في ما بعد”.

وبدأت مسيرة إذلال المودعين على أبواب المصارف، وإعطاءهم ما هو حقهم وكأنه صدقة من والي الولاة، يمنّ بها على المساكين المحتاجين بكميات بالكاد تكفي لسدّ احتياجاتهم الأساسية من مأكل ومشرب ودواء. وافتى الوالي لنفسه أن يعطي المواطن ما له من ماله بالعملة الوطنية رغم أنّ المواطن كان قد أودعها بالعملة الصعبة خوفاً من تكرار الكارثة التي أصابته أو أصابت أهله في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي حين انهارت قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، ومُني من أبقى وديعته بالليرة اللبنانية بخسائر فادحة أوصلت البعض الى الانهيار المالي الكبير بعد ان تراجعت قيمة العملة الوطنية حوالي الألف ضعف ولم يعد المبلغ الذي كان يشتري منزلاً يكفي لشراء علبة دواء.

لم تغب عن بال معظم المودعين كارثة الثمانينات التي أصابت الغالبية، وعاش الكثيرون منهم هاجس تكرار هذا السيناريو فأبوا إلا أن يحافظوا على جنى عمرهم وعلى “القرش الأبيض الذي ادّخروه لليوم الأسود” بالعملة الصعبة، أيّ بالدولار الأميركي ظنّاً منهم بأنّ مالهم سيكون بمأمن من الضياع، ولكن ما فاتهم هو أنّ الجهات التي تملك القرار المالي تضع الخطط في ما يتعلق بالسياسات المصرفية العالمية، وشركاءهم المحليين، والتي كانت قد خططت لأزمة الثمانينات، هي نفسها من خطط لهذه الأزمة. ولأنّ هذه الجهات تعرف جيداً الهواجس التي لم تبارح أذهان المواطنين في لبنان، عدّلوا السيناريو الجديد تعديلاً جذرياً بحيث تساوى من حافظ على ودائعه بالعملات الصعبة مع من كانت ودائعه بالليرة اللبنانية وتساوى الاثنان بالمعاناة القهر والإذلال وانهارت قيمة الدولار المصرفي كما قيمة الليرة اللبنانية وتساوت معاناة المواطنين على اختلاف ما ملكوه من عملات. وأصبح للدولار أكثر من كنية، من دولار “الفريش” الى دولار “الصيرفة” الى دولار “المصرف” الى دولار “الرسمي” الى دولار “السوق” وبين كلّ هذه التسميات، كان المواطن هو الخاسر الأكبر وأصبحت حياته اليومية أقرب الى الجحيم حيث أنّ مدخوله هو على الدولار “الرسمي” بينما مصروفه على دولار “السوق” أيّ بفارق فاق الثلاثين ألف ليرة للدولار الواحد أحياناً.

وفي ظلّ هذه الظروف الاقتصادية الصعبة جداً، بدأت الجمعيات الدولية بتسمياتها ومشاريعها المختلفة تتسلل الى القرى والمدن وتصل الى المواطن الذي يعاني من جراء انهيار الوضع الاقتصادي وبدأت بضخ الأموال بالدولار “فريش” حيناً وبالليرة اللبنانية أحياناً، وما بين المشروع والمشروع تعبئة استمارات لا تحصى ولا تعدّ. قد يبدو للبعض بأنّ الدول الأجنبية والجمعيات التابعة لها قد تعاطفت شديد التعاطف مع معاناة اللبنانيين، واستنفرت كلّ ما لديها من طاقات لتخفف وجعهم وتبلسم جراحهم، ولكن الحقيقة أنه لا مكان للمشاعر والعواطف في قواميس الدول، بل إنّ المصالح والمغانم هي التي تحكم قراراتهم وأفعالهم!

في خضمّ كلّ هذه الأحداث وتصاعد الانهيارات، ينحدر أداء ما سمي الثورة التي انطلقت في السابع عشر من تشرين الأول 2019 لتصبح هذه الثورة مجرد شعار يطلق وقبضة ترفع في الساحات، علماً بأنّ الثورات الشعبية الفعليّة هي التي تتناغم بحركتها وبنشاطاتها مع آلام الشعوب، فتزداد ضراوة مع ازدياد آلامهم ومعاناتهم وتعمل جاهدة لتفتح كوة ولو صغيرة في جدار المعاناة. إنّ الثورات الشعبية لا تستكين قبل أن تحقق آمال الشعب وتصل الى الهدف المنشود. إنّ الثورات الشعبية الفعليّة هي بركان لا يهدأ قبل أن يفرغ حممه لتحرق كلّ باطل وترفد كلّ حق، وللأسف هذا ما ليست عليه ما يسمى ثورة 17 تشرين الأول.

إنّ ما مرّ به لبنان وما يمرّ به في هذه المرحلة ما هو ألا نتيجة لعوامل متعددة يجب أخذها بعين الاعتبار من أجل الخروج من هذا النفق المظلم.

إنّ موقع لبنان الجغرافي شمال فلسطين المحتلة هو من العوامل الأساسية التي جعلته قيد الاستهداف، خاصة بعد أن قهر المحتلّ وأخرجه من أرضه قسراً وانتصر عليه في تموز 2006 بعد أيار 2000 لذلك من الضروري أن يحافظ على ورقة القوة التي يملكها وأن يحميها من أي استهداف.

إنّ النظام الطائفي المذهبي الذي زرعه الاحتلال الفرنسي قبل جلائه هو السبب الأساسي للكثير من المصائب التي عاناها ويعانيها لبنان، فهو يعزز اللاعدالة واللامساواة الاجتماعية ولا بدّ من أن يستبدل بنظام ذات طابع اجتماعي لاطائفي يساوي بين المواطنين ويعزز روح المواطنة والانتماء الوطني على حساب الانتماء الطائفي.

 إنّ لبنان ليس بجزيرة ولا يمكن أن يحيا بعزلة عن محيطه الجغرافي ومن أولى الخطوات الضرورية لإعادة الحياة فيه الى طبيعتها أن يعيد علاقاته بالجمهورية العربية السورية، “الشام،” الى طبيعتها وأن يتحدّى العقوبات، التي لم ترحمه رغم التنازلات التي قام بها في هذا الإطار، وأن يخطو خطوات جدية نحو اتحاد مشرقي يكون بداية جديدة لحياة جديدة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى