أولى

«فقه المقاومة» والواقع العربيّ في ظلّ التحوّلات الإقليميّة والدوليّة…

 د. جمال زهران*

يموج العالم كله بتحوّلات كبيرة، وكذلك الإقليم، بدرجة كبيرة. ومن يفكر بأنّ الوضع ساكن وأنّ التحوّلات ظاهرية، أو إعادة إنتاج اللحظة أو الحاضر، يضع نفسه في مربع «التفكير الرجعي»، الذي لا يرى سوى الحياة في الماضي، وبذل كلّ الجهود لتثبيت الوقائع والأحداث، مع تجاهل ديناميكية الحاضر بشكل كبير. ومن جانبنا نرى أنّ الحاضر يموج بتحوّلات كبرى، تصنع من خلالها وترابطها عالمياً وإقليمياً، واقعاً جديداً من أجل مستقبل مختلف.

فمدرسة السكون والرجعية، ترى أنّ الغرب الاستعماري بزعامة الولايات المتحدة ومعها أوروبا بمختلف اتجاهاتها، هو المسيطر والمتحكم في حركة الحاضر وضبط إيقاعاته، وصنع المستقبل تحت السيطرة، بحيث لا يتمّ انفلات الأوضاع. كما ينظرون إلى «الآخر» ـ أياً كان وضعه وقوته، ما هو إلا بعض المشاكسين الذين لا يحركون ساكناً، ولا يخرج دورهم عن المشاغبة، في إطار ديموقراطية عالمية تتسم بالشكل دون الفعالية! ومن ثم، فإنهم يطالبون العالم كله، بأن ينصاع للغرب الاستعماري، وعليه أيضاً تنفيذ أجندات أميركا وتوابعها، والتهديد بأنّ الخروج عن ذلك يكلف أيّ طرف ثمناً فادحاً فضلاً عن مطالبة الجميع بقبول «الكيان الصهيوني»، المسمّى عندهم «إسرائيل العظمى»! باعتبارها من الدول الكبرى إقليمياً، وهي دولة مسيطرة ومهيمنة في الإقليم، لأنها الامتداد الحضاري للغرب الاستعماري، وهو الوكيل الرسمي عن الأجندة الغربية الاستعمارية.

ومن ثم، فإننا أمام مشهد الترابط العضوي بين الغرب الاستعماري، وبين الكيان الصهيوني (إسرائيل). وبالتالي فإنّ السعي نحو رضى هذا الكيان، هو سعي لرضى أميركا والغرب، وأنّ إفساح المجال أمام تمكينه في الإقليم، بطريقة «التطبيع» الشامل مع الدول الأقرب بحكامها، من أجندات الاستعمار الغربي، وهي الدول الرجعية الخليجية، بغالبيتها، هو من الأساسيات المكونة لطبيعة الإقليم، حسب منظور الغرب الاستعماري.

ولذلك فإنّ هناك من يشيع من «عملاء» هذا الاتجاه، أنّ حكام الإقليم وفي مقدمتها «الدول الفاعلة»، لا يأتون إلا عبر رضى وموافقة أميركا والكيان الصهيوني، بكلّ وقاحة وفجور، نيلاً من إرادة الشعوب، وفرض الخنوع والاستسلام، والانبطاح أمام الأجندة الاستعمارية!

وخلاصة هذا الاتجاه، هو سيادة فكر الهيمنة الاستعمارية، الذي يقوم على الاستعباد، واجتثاث الإرادة الشعبية، وإنهاء فكر الاستقلال الذي تفجّر بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتكريس أنّ العالم تحكمه قوة واحدة، ولا سبيل إلى تغييرها أو استبدالها بقوة أخرى. ولذلك تمّ الدفع بعدد من المفكرين الغربيين، لإشاعة الفكر الذي يدعو إلى انتهاء حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وانتهاء التاريخ بانتصار حاسم للرأسمالية، والديموقراطية الغربية أمثال (فرانسيس فوكوياما ـ صمويل هنتنغتون ـ توفلر ـ هنري كيسنجر، وغيرهم). وطرح هؤلاء أفكاراً مضمونها، تفجير التناقضات القومية، وآليات تحريك ذلك عبر ما يسمّى بالفوضى الخلاقة، وتحريك العملاء والتوابع، لضبط المسارات بما يتفق مع هذه الأجندة، وقد كانت آليات تحقيق ذلك أيضاً، هو السيطرة على الإعلام الرسمي وغير الرسمي، لإشاعة ونشر أفكار هذا الاتجاه وسبل تنفيذ الأجندات.

كما أنهم يخلقون أدوات تحقيق الفوضى عبر أجهزة مخابراتهم، مثل جماعات الإرهاب (القاعدة ـ داعش ـ النصرة إلخ…) وتوزيعهم إقليمياً بعناية، والتظاهر بأنّ القوى الغربية بزعامة الولايات المتحدة، تقوم بمواجهة هؤلاء الإرهابيين، في حين هم من صناعتهم! (تمويلاً وتنظيماً وتدريباً إلخ…) كما يستخدمون آلية تجنيد الشخصيات الطامحة، مخابراتياً، والدفع بهم للظهور في الوقت المناسب بعد تدريبهم، لتصدر المشهد في الأماكن المطلوب إحداث التغيّرات الظاهرية فيها، للتحكم في إدارة التنافسات والاضطرابات المتوقعة فيها. كما أنّ هذا الاتجاه يسعى ويرتب السيطرة الدائمة على جيوش الدول الكبرى، عبر تجنيد غالبية القادة بمستوياتهم العُمرية المختلفة.

ويمكن معرفة ذلك، من خلال مؤشر التوافق بين سياسات هؤلاء عندما يصلون إلى صدارة المشهد وإدارة التحوّل والصعود إلى الحكم!

ولذلك يلاحظ أنّ سفراء أميركا يتحرّكون في دول الإقليم، بالمخالفة للقانون الدبلوماسي والقنصلي، للتأثير في مجريات الأمور، والدفع بعملاء أميركا إلى المشهد بكلّ الطرق، فضلاً عن إرباك الأطراف المنافسة، ومحاولة إعاقتها عن بلوغ درجة التأثير المضادة لهم!

في هذا السياق، فإنّ العالم يشهد تحوّلات كبرى في مقدّمتها ميلاد القطب الدولي المنافس للطرف الغربي الاستعماري، ويتمثل في روسيا والصين. ويزداد نفوذ هذا القطب عبر دول معينة في الإقليم، ومثال ذلك: (إيران/ سورية/ باكستان/ الهند/ كوريا الشمالية…) فضلاً عن أن دول الإقليم المدعومة من طرف دولي قوي ومنافس، تحرك المشهد في الإقليم، عبر الفكر المضاد للاستعمار، وعبر فكر المقاومة لهذا الاتجاه الاستسلامي والانهزامي والمعادي للاستقلال ورفض التبعية والاعتماد على الذات، ومقاومة الكيان الصهيوني، وداعميه من ركائز هذا الاتجاه، وهم أميركا وأوروبا.

إذن، فإنّ خلاصة هذا المقال، هو أنّ الإقليم العربي والشرق أوسطي، يموج بتحوّلات، في إطار ما يشهده النظام العالمي من تحوّلات كبرى أيضاً. وقد أصبح المشهد ينحصر بين اتجاهين رئيسيين هما: الأول: الاتجاه الاستعماري الانبطاحي المعادي للاستقلال والحرية والاعتماد على الذات، وفرض التبعيّة، بينما الاتجاه الثاني هو: الاتجاه المقاوم النابذ للتبعية والانبطاح، والساعي نحو بناء مستقبل كيانات الإقليم، وفق أجندة الاستقلال ومقاومة المحتلّ الغاصب (الكيان الصهيوني)، ومن يدعمه من قوى دولية وإقليمية!! ولهذا حديث آخر، ونواصل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، والأمين العام المساعد للتجمع العالمي لدعم خيار المقاومة.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى