أولى

الترسيم البحريّ: هل يصطدم هوكشتاين بلبنان رئاسة ومقاومة

 العميد د. أمين محمد حطيط*

من نافل القول التذكير بأنّ ملفّ ترسيم الحدود البحرية للبنان وتحديد الضلع الجنوبيّ من المنطقة الاقتصادية الخالصة حفل بكمّ من الأخطاء أحرجت المسؤول اللبناني وكادت ان تودي بحقوق لبنان ومصالحه التي تضمنها أحكام القانون الدولي العام بشكل عام وقانون البحار بشكل خاص، وكان المأزق الأخير في مسار تصحيح الأخطاء اللبنانية في هذا الملف هو معضلة تعديل المرسوم ٦٤٣٣ / ٢٠١١ تعديلاً ينقل حدود لبنان البحرية الجنوبية من الخط ٢٣ الذي اعتمد من غير أساس قانوني الى الخط ٢٩ الذي تمّ التوصل إليه نتيجة العمل بقانون البحار وإسقاطه على اتفاقية «بوليه نيوكمب» وتفسيره على ضوء اجتهادات القضاء الدولي والتي كان آخرها قرار لمحكمة العدل الدولية في قضية تشابه المسألة اللبنانية مع فلسطين المحتلة.

لقد تضمّن المرسوم ٦٤٣٣ الذي أودع لدى الأمم المتحدة نصاً يجيز تعديله إذا ظهرت معطيات جديدة تتيح أو تفرض ذلك وكان بديهياً ان يتمّ التعديل بشكل سلس وسهل في لبنان لأنّ التعديل يحفظ حقاً لبنانياً مكرّساً له بالقانون الدولي، لكن التعديل هذا وللأسف اصطدم أولاً بعقبة داخلية حيث انبرت أطراف لبنانية الى رفضه متمسكة بحجج واهية لا تقنع عاقلاً، ثم كانت العقبة الأكبر خارجية والتي تمثلت برفض أميركي «إسرائيلي» للتعديل مرفقاً بتهديد بوقف المفاوضات غير المباشرة التي ترعاها أميركا إذا تمّ التعديل.

أمام هذا الرفض المزدوج والمتناغم داخلياً وخارجياً، لم يستطع رئيس الجمهورية أن يقرّ التعديل الذي يحتاج الى موافقة من مجلس الوزراء وهي غير متوفرة، كما أنه لم يجد نفسه مضطراً لاتخاذ موقف يقود الى وقف المفاوضات وتحميله مع لبنان مسؤولية ذلك. لكن الرئيس لم يسلم بالابتزاز المتعدد المصادر والذي قد يؤدّي الي ضياع حقوق لبنانية أصرّ الرئيس على التصريح في كلّ مناسبة بأنه حريص عليها وعلى تأكيد سيادة لبنان على أرضه ومياهه وفقاً لما تضمنه أحكام القانون الدولي العام.

بيد انّ «إسرائيل» مستفيدة من الدعم الأميركي ومن القيود التي منعت لبنان من تعديل المرسوم ٦٤٣٣ أقدمت وبكلّ استخفاف بالموقف اللبناني على جملة خطوات تمسّ وضعية الملف وحقوق لبنان بدءاً من تلزيم التنقيب في المناطق التي لم يبتّ أمرها بعد الى شركات أميركية ويونانية، ثم إعلان سيادتها على «حقل كاريش» الواقع جله شمال الخط ٢٩ الذي يعتمده لبنان أساساً لحدوده، ثم تماديها في الاعتراض على قيام لبنان بالدعوة الى جولة تراخيص لتلزيم التنقيب في مناطق جنوبية تقع خارج مناطق النزاع، في موقف استفزازي حملته رسالة «إسرائيلية» الى الأمم المتحدة.

ويبقى التوقف عند موقف المقاومة، هذا الموقف الذي عبّرت عنه باللفظ والسلوك، وتضمّن التزاماً بحماية حقوق لبنان في ثروته البحرية وفقاً لما تحدّده الدولة اللبنانية وترسمه من خطوط تحفظ تلك الحقوق، ممارسة صلاحيتها. لكن المقاومة وفي ظلّ الضبابية اللبنانية في تحديد مدى الحقوق الذاتية والتجاذب الداخلي حول خط الحدود الصحيح دونما حسم نهائي، بقيت هي أيضاً مكبّلة اليدين لا تعرف متى سيكون عليها التدخل لحماية تلك الحقوق.

في ظلّ هذا الوضع أمعنت أميركا في المماطلة والتسويف وعدم العودة الى المفاوضات غير المباشرة التي توقفت في أيار ٢٠٢١ رفضاً من «إسرائيل» للبحث بالطرح اللبناني المتمثل بالمطالبة بالخط ٢٩، كما انّ «إسرائيل» قامت بكلّ ما يقتضيه أمر التنقيب في حقل كاريش الذي يمسّ بالحقوق اللبنانية، مطمئنة الى انّ المقاومة اللبنانية لن تتدخل طالما انّ هناك خلافاً لبنانياً داخلياً حول تحديد أيّ من الخطوط الثلاثة يتمسك بها لبنان.

في هذه البيئة المعقدة وتنفيذاً لوعده بحماية حقوق لبنان وسيادته عليها وجّه رئيس الجمهورية ومن خلال صلاحياته الدستورية التي لا تتطلب استشارة أحد او الاستحصال على موافقة أحد في الداخل والخارج، عبر وزرارة الخارجية وباسم لبنان رسالة حملتها مندوبة لبنان الدائمة في الأمم المتحدة، رسالة بالغة الأهمية من شأنها وفقاً للمضمون الذي احتوته أن تحقق للبنان حماية معقولة لحقوقه وتقطع على أميركا و»إسرائيل» مسار المماطلة والاستخفاف بالحقوق اللبنانية. وبالتالي فإننا نرى انّ للرسالة التي كنا نطالب بتوجيهها (مقالنا في البناء قبل ٥ أيام من توجيه الرسالة) المفاعيل التالية:

ـ إقامة توازن تفاوضي بين لبنان والعدو «الإسرائيلي» من شأنه ان يردم الهوة التي ظهرت منذ العام الماضي، حيث انّ لبنان فعل الآن كما قامت به «إسرائيل» رسالة اعتراض وتهديد مقابل رسالة اعتراض وضغط، فاعترض لبنان على سلوكها كما رفض موقفها بإعلان سيادتها على حقل «كاريش».

ـ تخطٍّ لبناني مؤقت لسلبية عدم تعديل المرسوم ٦٤٣٣ (مع التلويح بإجرائه إذا اقتضى الأمر). فهو لم يعدّل المرسوم ولم يعط الذريعة لأميركا بنسف المفاوضات وتحميل لبنان المسؤولية إلا أنه تمسك بما طرحه الوفد اللبناني في الناقورة، أيّ تمسك بالخط ٢٩ وهذا الأمر يطيح بكلّ ما قيل ويُقال عن تنازل لبنان عن هذا الخط او التزام لبنان بالعودة الى الخط ٢٣ والتفاوض لاقتسام مساحة ٨٦٠ كلم٢ بينه وبين «إسرائيل» وفقاً لخط هوف او ما يقاربه، او تقيّد بما قيل انّ اتفاق الإطار تنازل عنه (مرجعيات التفاوض الـ ٣ : قانون البحار واتفاقيتا بوليه نيوكمب والهدنة).

ـ إعلان المنطقة ما بين الخط ١ والخط ٢٩ منطقة متنازع عليها شاملة في ذلك حقل «كاريش» الذي حدّد بالنص والاسم بأنه منطقة متنازع عليها ما يعني انّ أيّة شركة تعمل في هذه المنطقة تتحمّل المسؤولية الأمنية عن عملها لأنها تخرق حقوق الغير الذي سيكون له الحق بالتدخل لحمايتها بالوسائل المتاحة.

ـ إطلاق يد المقاومة في حماية الحقوق اللبنانية بعد الوضوح في التحديد. فالمقاومة التي صمتت حتى الآن وتركت للدولة ان تمارس صلاحياتها في الترسيم وتحديد مدى الحقوق اللبنانية باتت الآن طليقة اليد بعد نشر الرسالة اللبنانية الى مجلس الأمن والأمين العام للأمم المتحدة. وبالتالي فإنّ الرسالة التي تنفي وزارة الخارجية صفتها السرية وتؤكد على علانيتها وعلى حق أيّ كان بالاطلاع عليها وطبعاً ان المقاومة في طليعة من سيطلع ويتحضّر لممارسة واجبه الوطني في حماية الثروة والحقوق.

ـ قطعت الرسالة الطريق على كلّ ما قيل او يُقال من التزامات لبنانية داخلية قطعت لأميركا من هذا الطرف او ذاك. فالرسالة أرسلت بتوجيه من رئيس الجمهورية صاحب الحق الحصري دستورياً بالتفاوض مع الخارج. ولذلك لم يعد بعد الرسالة قيمة لأيّ وعد انْ كان حصل او لأيّة عرقلة أو إملاء انْ كانت محاولة.

على ضوء ما تقدّم نرى انّ مهمة الاميركي هوكشتاين بالفهم والذهنية الأميركية – «الإسرائيلية» الرامية لاستباحة الحقوق اللبنانية والضغط على لبنان للتنازل والقبول بصيغ حلّ هجينة مركبة على قياس المصالح «الإسرائيلية»، باتت صعبة ومعقدة وغير ممكنة النجاح، خاصة بعد التيقن انّ رئيس الجمهورية يتقن القيادة في البحر المتلاطم الأمواج وبين الصخور وانّ المقاومة حاضرة في الحكومة (عبر وزير الأشغال) وفي الميدان عبر سلاحها المخصّص لحماية لبنان وحقوقه.

 لكلّ ذلك لن يكون هناك إمكان لتمرير حلول أميركية لا تناسب لبنان واستراتيجيته الوطنية. فلا حلّ يؤدّي الى التطبيع الاقتصادي عبر تقاسم الحقل الواحد بين لبنان و»إسرائيل» وتنظيم الاستثمار المشترك، ولن يكون هناك خروج عن القانون وقبول بخط متعرّج لتقاسم الحقول (قانا للبنان وكاريش للعدو) ولن يفيد التسويف والمماطلة في التفاوض، بل سيكون المسلك الوحيد المفتوح للحلّ هو العودة الى طاولة التفاوض غير المباشر ومن النقطة التي انتهى وتوقف عندها ومن لديه حجة قانونية فليدلِ بها لإثبات موقفه او لإجهاض موقف الآخر. وهذه المرة سيتذكر الأميركي والإسرائيلي بانّ المقاومة في لبنان أخذت علماً بأنّ المنطقة ما بين الخط ١ والخط ٢٩ منطقة متنازع عليها بالمنظور اللبناني، وعليهم أن يبنوا على العلم مقتضاه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أستاذ جامعيّ ـ باحث استراتيجيّ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى