أولى

موقفان دوليّان يوجهان إنذاراً للحكومة اللبنانيّة

 بشارة مرهج*

موقفان دوليان يتعلقان بلبنان، وآفاق الخروج من الأزمة المالية الاقتصادية التي يكابدها، مرّا من دون ان يحدثا الأثر المرغوب في بلد يبحث عن بصيص ضوء لسلوك درب الخلاص وطمأنة المودعين والمستثمرين إلى غدٍ مستقرّ، ويبحث في الوقت نفسه عن حكومة تدخل المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وسواه بصورة واثقة استناداً الى الحقائق وليس إلى الأوهام فتضع في اولوياتها مصلحة الاقتصاد الوطني قبل مصلحة أفرادها أو المنظومة الحاكمة التي ترتبط بها عضوياً.

الموقفان صدرا عن البنك الدولي وعن صندوق النقد الدولي وهما يعبّران بحسب مرجعيتمها عن حرص المؤسستين الدوليتين على مساعدة لبنان للخروج من أزمته، ولكنهما يشيران في الوقت نفسه الى خيبتهما من الطرف اللبناني الذي يبدو غير مستعجل أو غير متفق في ما بينه على اجتراح الحلول لأزمة طال أمدها واستفحل أمرها.

واذا كان البيان الأول الصادر عن البنك الدولي يعتبر الأزمة الاقتصادية التي يمرّ بها لبنان نتيجة فساد متعمّد ومدمّر مارسته الطبقة السياسيّة التي استولت على الدولة منذ فترة طويلة وعاشت على ريعها، فإنّ البيان الثاني الصادر عن مديرة صندوق النقد الدولي كرستالينا جورجييغا يشير صراحة إلى “امتناع الحكومة اللبنانية عن وضع برنامج شامل يعالج مشاكل البلاد بما فيها الفساد”، علماً أنّ الحكومة وما تمثل تدرك بأنّ هذه هي المقدمة التي لا بدّ منها لإجراء حوار مثمر والحصول على مساعدات قد لا تقارن قيمتها بما هدرته السلطات من أموال المودعين اللبنانيين تحت شعار الدعم لبعض السلع.

 البنك الدولي يقف موقف الاتهام للطبقة السياسية ويحمّلها مسؤولية الاستفادة من الاقتصاد الوطني وصولاً لتدميره. وفي هذا المجال فإنّ مسؤولي البنك الذين يتابعون الاقتصاد اللبناني متابعة حثيثة ومستمرة ويصدرون التقارير الدورية بهذا الشأن… يبدو أنهم ملّوا اللغة الديبلوماسية المرنة التي درجوا عليها تجاه الحكومة اللبنانية آملين منها أن تفهم بين السطور، وآثروا اللغة العلمية المباشرة التي تعلن الحقيقة، كما هي، وتضع الجميع أمام مسؤولياتهم.

أما الصندوق الدولي فكان واضحاً بلسان مديرته عندما اشتكى من غياب الشريك كما من غياب البرنامج الشامل للإصلاح والقضاء على الفساد، وكأنها تقول إنّ المفاوضات الجدية بين الصندوق ولبنان لم تبدأ جدياً لأنّ بلد الأرز لم يبلور بعد الشريك المقابل ويزوّده بكامل الصلاحيات التي تضمن سير المفاوضات بسلاسة وتضمن تنفيذ ما يُتفق عليه، فضلاً عن أنّ لبنان لم ينجح بعد في وضع الخطة الشاملة التي طالما طولب بها من عواصم وجهات عربية ودولية ومؤسسية وبدا وكأنه يتهرّب ويماطل ـ كما في التحقيق الجنائي ـ لأنه يفتقر الى الأرقام الصحيحة إلا تلك التي تدينه وتدين إهماله وصرفه للنفوذ وتبيّن مدى مسؤوليته في عملية الانهيار التي شارك فيها إلى جانب القطاع العام والقطاع المصرفي والبنك المركزي ورموز معروفة في القطاع الخاص، حيث للاحتكارات والكارتيلات الموقع الحصين.

وتصريح السيدة جورجييغا مديرة صندوق النقد الدولي الذي يكشف مماطلة، بل امتناع الطبقة الحاكمة ـ ممثلة بحكومة الرئيس ميقاتي ـ عن وضع خطة شاملة للتعافي المالي يأخذ أهميته أيضاً من كونه جاء استكمالاً لموقف سابق لمديرة الصندوق أكدت فيه، منذ سنة ونصف السنة، على أن الصندوق بحاجة الى شريك في الحكومة اللبنانية كي يعمل معه لحلّ مشاكل لبنان المالية وإعادة هيكلة ديونه.

فالصندوق كما البنك الدولي، من خلال هذا التصريح والذي سبقه، يعبّر عن تبرّمه من المسؤولين اللبنانيين الذين يهملون واجباتهم الأساسية معتقدين انّ أحداً لن يكشف مواقفهم الحقيقية التي تنحصر بالحفاظ على مصالحهم الذاتية دون النظر بمصلحة البلاد العليا.

وإذا ربطنا بين مناورات السلطة ومغالطاتها تجاه المفاوضات مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وبين مواقف البنك المركزي ومن يقف معه تجاه التحقيق المحاسبي الجنائي، وتجاه الملاحقات القانونية التي تنهمر على الحاكم رياض سلامة في الدول الأوروبية لتبيّن بوضوح لماذا تأخرنا عامين عن الشروع في الخطوة الأولى في عملية التصحيح والنهوض.

لقد أصبح واضحاً انّ الذي تسبّب بالكارثة ويرفض معالجتها إلا على حساب المودع اللبناني والثروة العامة هو القطاع المصرفي الذي يعتبر أنه يستطيع استكمال الطريق التي قطع أكثر من نصفها حتى الآن، بتغطية من المراجع السياسية والطائفية، ولو توالت عليه المواقف الدولية التي لم تعد قادرة على ضبط أعصابها كرمى لعيون من امتهن أسلوب المناورة واللفّ والدوران تهرّباً من أيّ التزام بخطة واضحة محدّدة للنهوض، وتهرّباً من تقديم أيّة معلومات لازمة لأيّ معالجة أو نهوض.

وهذا بالضبط ما أشار إليه موقف البنك الدولي التصعيدي عندما أكد “أنّ الأزمة الاقتصادية اللبنانية سببها فساد متعمّد ومدمّر من الطبقة السياسية التي استولت على الدولة منذ فترة طويلة وعاشت على ريعها…”.

فالاتهام هنا للطبقة الحاكمة مباشر ولا يقبل التأويل خاصة أنّ البنك الدولي الذي يملك معلومات لا نملكها ملّ وتعب من مناورات الطبقة الحاكمة وألاعيبها ومحاولاتها التهرّب من المسؤولية.

لقد خلعت المنظمات الدولية قفازاتها الحريرية وبدأت مرحلة جديدة من التعامل ميزتها الدفاع عن نفسها وكشف انحرافات وسرقات المنظومة اللبنانية الحاكمة.

الجهات الدولية بعدما حاول الداخل اللبناني نقل تجربته التي يعتمدها على الصعيد المحلي الى المستوى الدولي عيل صبرها وقرّرت وقف هذه اللعبة المبتذلة. لذلك توجّه الموقفان بلغة مشتركة للمفاوض اللبناني وكأنه يعطيه الإنذار الأخير للثبات على موقف للتفاوض والاستعداد لتحمّل نتائجه في مفاوضات يعلم الجميع أنها لن تقدّم الحلّ الشافي الكافي لأزمة خانقة لا زال أصحابها يفكرون كيف يتنصّلون منها قبل أن يخوضوا غمارها.

*وزير ونائب سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى