مقالات وآراء

لبنان بين التطبع والتطبيع…؟

} خضر رسلان

 بحسب المتعارَف يُتداول مصطلح التطبيع في سياق العلاقة بين متناقضين، كالاحتلال مثلاً والمناهضين لوجوده، والذي يرمي الى جعل العلاقة بينهما طبيعية، خلافاً للعرف والمنطق ولو كان الأمر عكس ذلك لما سُمّي الفعل تطبيعا.

الاحتلال «الإسرائيلي» لا يتعاطى مع التطبيع بوصفه هدفاً نهائياً، بل كخطوة تحسّن موقعيته في مواجهة الرافضين له ولكيانه، وبناء على ذلك فهو يكثف مساعيه لجرّ الفئات والدول المطبّعة للاصطفاف معه جنباً الى جنب في مواجهه المقاومة والمقاومين… وعلى ضوء ذلك فإنّ مصطلح التطبيع لا يعبّر البتة عن واقع الحال، بل يستبطن مشروعاً توسعياً يهدف الى المزيد من الهيمنة والتسلط وتقويض ومحاصرة قوة الحرية والاستقلال.

 أما التطبّع فهو ما يجده الأفراد او الجماعات موافقاً لهواهم وقريباً من أنفسهم لتنتج منظومة قيم خاصة بهم، ويغلب الطبع على التطبّع وغالباً ما يكون سابقاً له كما هي حال بعض الحكام العرب المتحالفين بالخفاء مع الكيان الصهيوني، فهم مطبّعون ومتحالفون بالطبع قبل التطبّيع.

وفي قراءة للواقع اللبناني تطالعنا عناوين وأحداثاً تدخل في إطار التطبّع الخطير الذي يُراد من خلاله كيّ الوعى وكأنه يدخل في إطار الإعداد والـتأهيل، ما يؤهّل المنظومات الى الانتقال السهل من حالة الطبع الى التطبيع. وفي هذا الإطار يبرز لنا عيّنات وأمثلة ويمكن إنْ أوغلنا في البحث أن نجد الكثير منها:

1 ـ الخروقات «الإسرائيلية» اليومية وخاصة الجوية منها :

يستبيح العدو «الإسرائيلي» منذ نيّف وخمسين عاماً السيادة اللبنانية أرضاً وبحراً وجواً حتى تطبّع اللبنانيون مع هذه الحالة، وفي حين تطالعنا بين فينة وأخرى عراضات وخطابات وأراجيز تتحدّث عن السيادة والاستقلال دون أيّ اكتراث أو شعور بنقص في السيادة بعدما أوغلوا في التطبّع مع الاعتداءات «الإسرائيلية» وحتى حينما تستفيد الطائرات الصهيونية من ارتفاع سلسلة جبال لبنان الغربية الذي يصل الى أكثر من 3000 متر للاختباء بما يمنع الرادارات السورية من رؤيتها مما يسهل عملية الاعتداء على سورية نجد الإيغال المتمادي في التطبّع بحيث أصبحت هذه الخروقات شيئاً مألوفاً واعتيادياً ويكاد يتمّ التعامل معه كما لو أنه حق طبيعي من حقوق الكيان الغاصب.

2 ـ مبدأ الحياد تطبّع مبطن

أن تطبّع الناس على فرضية الحياد بين الظالم والمظلوم بين البريء والجلاد مخالف لأبسط القوانين الوضعية والدينية ففي حين نرى شرائع الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الانسان، بغضّ النظر عن مصداقيتها، لا تقف على الحياد بحسب قوانينها في قضايا تتعلق بالحقوق والعدالة ورفع الظلم، نرى في الشرائع السماوية الأمر أجلى وأوضح كما في الديانة المسيحية حيث المسؤوليّة الإنسانيّة عن هذه الأرض جذريّةٌ في الإيمان المسيحيّ، وأنّ كلمةَ الله تَجَسَّدَ في العالم ليدشِّنَ ملكوتَ الله، ومقياسُ يسوع هم المهمَّشون بل انه وحّد نفسَه بالمهمَّشين، فمن يُردْ أن يكونَ معه يكونْ مع هؤلاء ويعضدْهم، وأن يحبَّ الإنسانُ الآخرَ يكون برفع مفاعيل الظلم عنه.

 لم يكتفِ يسوع بذلك، بل قال إنّ «الملاعين» الذين لن يدخلوا ملكوتَ الله هم الذين رأوْا يسوعَ عطشاناً وجائعاً وغريباً ومريضاً ومسجوناً فلم يهتمّوا به، مطالباً الإنسانَ بأن يلتزم برفعَ أسباب الظلم عن المظلومين.

لا نجد في الإنجيل موقفاً من الحياد أوضحَ من موقف بيلاطس الحاكمِ الرومانيِّ، حين قبض الكهنة على يسوع وحَكموا بضرورة قتله، ذهبوا به إلى بيلاطس لينفِّذَ عقوبةَ الإعدام، فقال لهم أبصِروا أنتم» (أيّ افعلوا ما تشاؤون) متنصّلاً من مسؤوليّته. ومعلناً حيادَه.. مع أنه لم يدنْ يسوع، ولم يَحْكمْ عليه، بل هو أعلن براءتَه، ولكنّه تركه مع الذين اتّهموه وأرادوا قتلَه. شخصيّة بيلاطس تختصر «الحيادَ» تجاه الضحايا والأبرياء فالحياد يترك الضحيّةَ البريئةَ لجلّادها.

إنّ قرار صَلْبَ يسوع كان نتيجةً طبيعيّةً لمسار إنسانٍ ثائر لتحرير الناس من سجونهم، ولإطلاقِهم في فضاء الحرّيّة والمحبّةِ والعدل. أما كلماتُ يسوع وتصرّفاتُه فهي تعكس لاحياديّةً صارخةً، والتزاماً حاداً بقضايا الناس ورفع الظلم عنهم.

3 ـ التطبّع مع الانحياز والتواطؤ الأميركي مع «إسرائيل» ضدّ لبنان.

من أسوأ انواع التطبّع والتطبيع هو وصف الولايات المتحدة الأميركية بأنها دولة صديقة ووسيطة من قبل أركان الدولة اللبنانية والكثير من إعلاميّيها في حين أنها تجاهر بانحيازها المطلق الى الاحتلال «الإسرائيلي»، ولطالما استعملت الفيتو لنقض مشاريع قرارات في مجلس الأمن الدولي لإدانة الاعتداءات «الإسرائيلية» على لبنان ومنها على سبيل المثال: (الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان عام1982/ مجازر صبرا وشاتيلا/ مجزرتي قانا/ وغير ذلك الكثير.

أما قمة تطبّع الدولة اللبنانية فهو تسمية الموفد الأميركي آموس هوكشتاين، كبير مستشاري البيت الأبيض لأمن الطاقة الذي تمّ تعيينه من قبل الإدارة الأميركية ونعته باسم الوسيط الأميركي المكلف إيجاد صيغة لترسيم الحدود البحرية واحتياطيات الغاز في البحر المتوسط بين لبنان و(إسرائيل)، رغم انّ القاصي والداني يعلم انّ الولايات المتحدة لم ولن تكن وسيطاً يوماً ما بين ايّ دولة وبين الكيان الغاصب بل هي راعية وضامنة للمصالح الصهيونية وإنما قامت وتقوم بحصار الشعب اللبناني وتشديد سلاح العقوبات عليه كرمى للكيان «الإسرائيلي» الغاصب ومن أجل الحصول على تنازلات من قبل الدولة اللبنانية على حساب الشعب والاقتصاد الوطني اللبناني.

بناء على ما تقدّم فإنّ سلوك التطبع والتسليم من قبل الأفراد والجماعات يعدّ مؤشراً خطيراً وهداماً لأنه يؤسّس لبناء بنية تحتية يُراد منها أن تصل بشكل مريح وسلس إلى مرحلة التطبيع الكامل مع العدو الصهيوني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى