أولى

الأمن القوميّ الروسيّ والامتحان الأوكرانيّ

 سعاده مصطفى أرشيد*

أخذت الدولة الروسية تأخذ الاسم والشكل انطلاقاً من إمارة (دوقية) موسكو إثر تحرّرها من احتلال وسيطرة القبيلة الذهبية المغولية، وأخذت شكل الدولة الحديثة في عهد إيفان الرابع الرهيب أواخر القرن الرابع عشر، ثم شكل الدولة العصرية ـ الحديثة على يد قيصرها بطرس الأكبر المستنير والمنفتح على قيم التطوّر والحداثة.

هذه الدولة الأوراسية هي الأكبر مساحة في العالم مع ما خسرته إثر تفكك الاتحاد السوفياتي، لا بل هي الدولة الأكبر عبر التاريخ الواضح للإنسان عبر الستة آلاف سنة من التاريخ الواضح والجلي، وتملك أكبر مخزون من الموارد الطبيعية والخامات كمّاً ونوعاً، وهي الاقتصاد السابع عالمياً والسادس في القدرة الشرائية والثالث في الإنفاق الحربيّ وتملك ربع المياه العذبة في العالم.

إنها القوة البرية الأكبر في العالم إلا أنّ نقاط ضعفها تكمن في مسألتين هامتين، المسالة الأولى هي أطرافها المترامية من أقصى الشرق المطلّ على بحر اليابان والمحيط الهادي، إلى المحيط المتجمّد الشمالي وبحر البلطيق، إلى امتلاكها 40% من قارة أوروبا، الأمر الذي يوزع قواها على كلّ تلك المساحة، والمسألة الثانية أنها غير مطلّة بحرياً على المياه الدافئة، لذلك تبقى محصورة، الأمر الذي حرمها حتى من الاكتشافات الجغرافيّة في عصر تلك الاكتشافات التي أبحرت بها الدول الأوروبية غرباً عبر الأطلسي، لم تملك روسيا إلا البحار شرقاً عبر المحيط الهادي لتكتشف ألاسكا وبلاد الأسكيمو.

بذلت روسيا محاولات مضنية استمرّت قروناً للوصول للمياه الدافئة، وإيجاد مواطئ قدم لها على سواحل المتوسط، ومن تلك المحاولات الدعم الذي بذلته في دعم تمرد حاكم الجليل ظاهر العمر على الدولة العثمانيّة، واشتباكها مع الأساطيل العثمانية والأوروبية لفكّ الحصار عن عكا، ومنها حروبها مع الدولة العثمانية للوصول إلى البحر الأسود وبحر أزوف، وهو ما نجحت فيه بعد قرون من القتال، وكان ذلك حلاً جزئياً فالبحر الأسود بحر شبه مغلق وطريقه للفضاء البحريّ لا بدّ له من المرور عبر المضائق التركية وبحر مرمرة.

هذه الحروب على طول زمنها كانت بالغة الكلفة المادية والبشرية، لدرجة أنها اضطرت الدولة الروسية لبيع ألاسكا للولايات المتحدة في منتصف القرن التاسع عشر لتمويل حروبها للوصول للمياه الدافئة والتي لم تتوقف في زمن الاتحاد السوفياتي والحرب الباردة، فكان دخولها لمصر عبد الناصر والعالم العربي والثالث، وكان ما عاصرناه من اجتياحها المرهق لأفغانستان، ومشاركتها الأخيرة في وعلى الحرب السورية التي كانت قد منحتها سابقاً إطلالتها الوحيدة على الفضاء البحريّ في ميناء طرطوس.

لعبت أيدي الزمن والفساد والجمود لعبتها التي ترافقت مع نظريات الاحتواء المزدوج وسياسات سباق حرب النجوم على إنهاء الاتحاد السوفياتي المرهق والذي أعلن عنه انهيار جدار برلين، فانفلتت دول الكتلة الشرقية الأعضاء في حلف وارسو من قبضة موسكو ونقلت سلاحها لكتف آخر لتصبح في حلف شمال الأطلسي وتدخل نظام السوق الاقتصادي، فيما استقلت دول عديدة كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي لتصبح دولاً مستقلة.

كما لعب الغرب ممثلاً بحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي في ملعب موسكو، وأخرج دول أوروبا الشرقية من بيت الطاعة الروسي واستباح حتى روسيا نفسها في عهدي ميخائيل غورباتشوف وبوريس يلتسن، واستمر في محاولاته السياسية في الملعب الآسيوي للاتحاد السوفياتي السابق.

عودة الروح لروسيا كانت أمراً لا بدّ منه طال زمن الوهن أم قصر، وكان أن استردّت الروح وبالتالي استطاعت تدارك الخطر المحدق الذي تبدّى أولاً في جورجيا وتصدّت له موسكو بالحديد والنار، ثم في أوكرانيا عام 2014 حيث استردّت شبه جزيرة القرم ومقاطعتين من أوكرانيا، ومؤخراً في كازاخستان واليوم في أوكرانيا التي تحاول الانضمام لحلف الأطلسي ظناً منها أنّ هذا يحميها من جارها القويّ.

في الجانب الآخر من الصورة تريد الولايات المتحدة التفرّغ للصين وبحرها ونموّها الاقتصادي السريع وطريق حريرها، في حين تعرف الصين أنّ نقطة الاشتباك الأخطر في جزء منها مستقلّ ومعاد لها، انه تايوان أو الصين الوطنية سابقاً، وفي غمرة الاستعداد والتموضع الأميركي في جوار الصين، أجرت هذه مناورات واسعة مشتركة مع إيران وروسيا في بحر عُمان، ولعلّ الولايات المتحدة قد رأت في اشتباك استباقيّ مع روسيا حول أوكرانيا ما يمكن اعتباره تمريناً حياً لما يمكن أن يحدث مع تايوان، هذا إضافة إلى انزعاج واشنطن من حلفائها الأوروبيين في علاقاتهم سواء مع الصين أو روسيا، ألمانيا هي الشريك التجاري الثاني لروسيا سواء في شراء الغاز والاستثمار في خط غاز نورد 2 أو في التبادل التجاري بين البلدين والذي يستثني واشنطن في السياسة والاستراتيجية وحتى في التبادل بأوراق دولارها، ومنزعجة كذلك من فرنسا في حربها الباردة، حتى الآن مع الصين والذي تبدّى في إلغاء أستراليا صفقة شراء الغواصات الفرنسية واستبدالها بغواصات أميركية.

لن تقبل روسيا بوجود الناتو في أوكرانيا أو استعمال الأرض الأوكرانية لأغراض عسكرية ولا بأيّ شكل من الأشكال، فالمسألة لها علاقة بالمقدس الروسي، بالأمن القومي، وتراها مسألة حياة أو موت، فيما تراها واشنطن مسألة سياسيّة تحتمل فيها الربح والخسارة وهي لا تمسّ جوهر الأمن القومي الأميركي، من هذه المعادلة يمكن القول بأن روسيا لن تتراجع عن محاولة فرض ما تريد.

حدّد الرئيس الأميركي بايدن يوم أمس الأربعاء موعداً لبدء الحرب، وهو موعد انتهاء دورة ألعاب رياضيّة في الصين ولكن حتى موعد دفع هذا المقال للنشر لم يظهر أن الموعد الذي ضربه الرئيس الأميركي دقيقاً، وقد ردّ عليه مصدر دبلوماسي روسي مؤكداً ومتهكماً: أن لا نية لبدء الحرب الأربعاء وأن ليس من عادة الدول أن تبدأ حروبها في يوم أربعاء.

هناك احتمالات ثلاثة…

الاحتمال الأول: أن تجتاح القوات الروسية أوكرانيا غير آبهة بالعالم وعقوباته وأية نتائج لهذا الاجتياح، وواضعة نهاية للدولة الأوكرانية، ولكن مخاطرة بحرب استنزاف طويلة والتمرّغ بمستنقع شبيه بما حصل معها ومع غيرها في أفغانستان واليمن.

الاحتمال الثاني: أن تكتفي روسيا باحتلال أجزاء من أوكرانيا مجاورة لها، وتملأها بالقواعد العسكرية القادرة على السيطرة على أيّ تحرك معادٍ لها في الأراضي الأوكرانية.

الاحتمال الثالث: هو في الوصول إلى تسوية تكون فيها أيه حكومة أوكرانية موافق عليها من قبل موسكو، وتكون غير راغبة لا في دخول حلف شمال الأطلسي وراغبة عن ممارسة أي عمل معادٍ لموسكو.

ليس من السهل التنبّؤ بمجريات الأمور ومآلات هذا التصعيد الذي قد يهدّد السلم العالمي، ولكن قد يكون من المباح التوقع بأنّ موسكو جادّة ومستعدة للسير إلى أبعد مدى للحفاظ على أمنها القومي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*سياسي فلسطيني مقيم في الكفير ـ جنين ـ فلسطين المحتلة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى