حديث الجمعة

ما هو الحب في عيد الحب؟

ليس مهماً أصل عيد فالنتاين ولا مدى قدسيته ولا التفلسف في وظيفته الاقتصاديّة طالما صار يوماً يتداعى الناس لإحيائه للتعبير عن مشاعرهم بالحب فاكتسب العيد مشروعيته من إحيائه ومن أعلى سلطة تشريع وهي الناس.

فما هو الحب؟

قيل الكثير في الحب، فقيل دمعة وابتسامة، وقيل خفق القلب المتسارع، وقيل الشوق والانتظار، لكن الحب الذي يمتلئ بهذه المظاهر لا يكفي لتفسيره بما يحدث معه، كمن يقول الخريف هو تساقط أوراق الشجر بدلاً من القول في الخريف تتساقط أوراق الشجر، وفي الحب دمعة وابتسامة وفي الحب شوق وانتظار لكن ما هو الحب؟

تقول كاتبة الحب أحلام مستغانمي إن الحب هو ذكاء المسافة فلا نقترب كثيراً كي لا نحترق ولا نبتعد كثيراً كي لا نصاب بالجفاف. وهذه برأيي وصفتها لإدارة الحب الناجح وليست تعريفاً للحب بغض النظر عن نجاحها او فشلها او إمكانيتها من عدم إمكانيتها.

هل الحب حالة قابلة للاستدامة؟ ام هو مراحل ذهبية وفضية ويمكن ان تكون برونزية؟ وهل هو في خط بياني صاعد دائما ام له ذروة يغادرها ويبدأ بعدها خط الهبوط؟

الحب ليس فعل ارادة وقرار فلا تناسبه كل اوصاف الارادة ومواهبها فالأكيد أنه ليس اختياراً نقوم به بإرادتنا وهو شيء آخر مما يلتبس الاشتباه به بأعراض مشابهة تنتهي بزوال أسبابها كرغبة تملك آخر لجماله او نفوذه او اشتهاء الغريزة. فهو اكثر استدامة من النزوات العابرة.

الحب ليس ذكاء بل وقوع والوقوع اللاإرادي هو فعل فطرة العقل المعطل عن تنميقاتنا الاجتماعية المدروسة والتي تأخذ وقتها للمواءمة مع الممكن عندما تكون عاقلة. فلذلك هو غالباً ما يجلب الإشكاليات لعدم مواءمته لها لأنه يقع قبل أن نأخذ وقتنا بالتفكير والمواءمة. فهو فضيحة العقل في لحظة الانكشاف وهو غباء القدرة على التحكم بالاختيارات المبنية على الصورة النمطيّة لما أردناه لهذه الخيارات بعد جهد من البناء التراكمي للمعارف. فهو فضيحة الغباء الاجتماعي للعقل في اختيار يعبر عن الحقيقة الإنسانية العارية لداخل الإنسان ما قبل الأناقة والتجميل والمساحيق المحسوبة. فهو لحظة استفاقة المشاعر من النوم قبل كل استعداداتنا لمقابلة الغير بمهابتنا واناقتنا ولياقتنا وصحونا وملابسنا. هو عري النفس الانسانية وغفوتها قبل فنجان القهوة وجرعة الكافيين الميقظة.

الحب إذن هو الوقوع كما هو الموت فلا يهم ان وقع علينا أم وقعنا عليه، ولكنهما النقيضان والشريكان. فالموت وقوع نخشاه والحب وقوع نسعى إليه ونكافح بكل من الشعورين قوة حضور الآخر، فلذلك تمتلئ تعابيرنا عن الحب باستحضار الموت كالقول بالحب الأبدي ولا يفرقنا إلا الموت وبحبك موت ونستحضر في الموت الحب. فالحب هو مصل الشعور بالحياة الذي تنتجه الروح لمكافحة سم الخوف من الشعور بحقيقة الموت.

الحب بما يرافقه من مشاعر التطلع نحو السعادة بما لا يجلبه للإنسان لا المال ولا النفوذ ولا القوة وهي مصادر السيطرة على الأقدار التي يسعى لامتلاكها البشر. فالحب هو زاد الفقراء والمظلومين للشعور بالحياة وفرحها والسعي للتساوي وربما التفوق على أقدارها الطبقية وتمايزاتها وهو سعي الأغنياء والأقوياء لتعويض فشلهم بنيل السعادة الموهومة بمصادر سيطرة تكتمل بين أيديهم ولا تعفيهم من حزن الفشل بنيل لحظة الفرح المرتجاة والحب بما هو ما لا يصنعه أو يجلبه مال ونفوذ وقوة كالصحة والأمان وسكينة النفس او هداوة البال، كما نقول. وهي النعم النفسيّة التي لا تجلبها المقومات المادية للحياة ولو كانت الماديات ضرورات في قلب السعي لتوفير الحد الأدنى من هذه النعم، لكن المزيد من هذه المقومات المادية لا تجلب المزيد من الصحة والأمان والسكينة ولا يمنع هذا المزيد خسارتها. فالحب هو اذن حاجة الروح والنفس لاكتمال عدة التوازن في رحلة العبور في مركب الحياة كما السكينة والأمان لكنه نقيضهما بالضجيج والقلق.

الحب حالة وليس خياراً او صفة او علاقة. فليست له صفة الديمومة ولا لقوة حضوره هذه الديمومة. فلا نستطيع القول حصلنا على الحب كما نحصل على الشهادة الجامعية ونطمئن، او كما نشتري منزلاً او كما نقيم عقد عمل. وتعقيد هذه الحالة من المشاعر في النفس الإنسانية أنها فعل ماض وليست فعل حاضر أو مستقبل. فكل مشاعرها نحو الغد هي قلق وانقباض وتقلصات صدرية ومعوية وضيق نفس وتذكرها فرح واسترخاء ولا نشعر بقوة الحب الا بعد مروره قياساً بما نكون عليه وما كنا. فالقلق هو سمة الحب والوصول والاطمئنان بقدر ما هما هدفه الدفين هما نهاية جماليات دفق مشاعره. فالحب فوضانا البلا قانون يبدأ بالنزول من عليائه عندما يتقونن وفي مرحلة ما قبل الإدراك هو الأشد سحراً وفي مرحلة الإنكار هو الأقوى وفي مرحلة التبادل العاطفي المتقطع هو الأجمل وفي مرحلة الوصول والإشهار هو بداية الذبول والافول والتحول الى عقد اجتماعي له وظيفة وعليه متطلبات ويخضع لقانون الشركات ومحاكمها دون ان يعني ذلك وصف التعاقد الاجتماعي بالسوء والبشاعة بل بما فيهما من فرص للسكينة والسعادة من أنواع أخرى لهما بحث آخر غير بحث الحب.

الحب هو غفوة العقل البشري لاختيارات لا إرادية وهو الوقوع الفاضح لتكوين النفس المعقد على شريك القلق والتوجس والحزن والانتظارات في وجه قدر الموت الحاكم. وهو كحبل الإيمان فرصة نجاة من عذاب التفكير بالموت كوحش قادم.

الحب هو غباء الزمن المستعجل هرباً من قطار الموت نحو ركوب قطار الإشهار والقوننة والوصول والحصول؛ والغباء هنا أنه يؤدي لضياع الأجمل والأشد سحراً والأقوى وبدء النزول عن صهوة الفرس بمغادرة ما كان في مراحل اللاإدراك والإنكار واللاإشهار.

الحب هو مرآتنا الحقيقية لحظة الصحو من النوم قبل الاستعداد لملاقاة الخارج وقبل يقظة فنجان القهوة وفرك العيون. فالحب هو مَن يقول لنا من نحن فقل لي من تحب اقول لك من انت!

الحب المستحيل هو الحب الأعمق والحب الممكن هو الحب الأعقل.

الحب العابر هو الومضة الأشد لمعاناً والحب الحي هو الأشد مقاومة بالعقل لقسوة الموت بمساومات مستديمة بين العقل والقلب.

الحب من طرف واحد هو قمة الذكاء لأنه حب لا يموت ولا يصل. فهو قلق لا يتوقف وشعور بسعادة تعيد إنتاج ذاتها. فهو حب الاذكياء الذي لا يعرفون انفسهم ولا يعترف الناس لهم.

حب الأم والأب والأخوة والأبناء والناس والأوطان هو حب السكينة الحية وإطلاق العلاقة بملاقاة الموت بجفون هانئة. وفي هذا الحب يصدق القول أفديك روحي لأنه ليس مبنياً على مقاومة الموت بل على القلق منه على الأغلى فيعصم هذا الحب نفسه عن المتعة والبحث عن الفرح ويحيا بالبذل والتضحية حد الموت. وهو نقيض حب بين رجل وامراة حيث القلق والبحث عن متعة وفرح وسعادة.

في عيد الحب

ليحتفل الناس بلا عقد الأسئلة عن العيد وصاحب العيد

احتفلوا بحب مضى ولا يعرف به أحد سواكم. فمداعبة الأسرار متعة لا تنال.

احتفلوا بحب مستحيل وحب من طرف واحد وحب عابر.

احتفلوا بحب حيّ وحب ممكن وحب متبادل.

احتفلوا بحب الأوطان والآباء والأمهات والاهل والناس والاوطان.

الحب قوتنا السحرية بوجه الموت فلا تخبئوا هذا السحر في قنينة.

كلمتي لكم :

الحب هو الجنون الممتع الذي لا يؤذي أحداً سوانا ونحن نستلذ بالأذى ونخشى زواله؛ إنه عكس السير في قوانين الحياة؛ فهنيئاً للمعذبين.

ناصر قنديل
من الذاكرة – كتبت في 14 شباط 2014

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى