أخيرة

لم أصِل… لكن سأنجو

} نجاة حجازي

عندما تكون نافذة الضوء الوحيدة في زنزانة الجراح لا تَدلّك سوى على خطأ الوقت فهذا معنى أن يتعقم القلب بهذيانه الأخير…

ثمة صَدْعٌ واحد في الجدار، ليس من صنيعي، يوزع الضوء بِالمجَّان. كلما قشَّر هذا الضوء صوت الحزن في قلبي تقافزت الأشرطة في شريحة ذاكرتي وبدقة وقتِيَّة عالية، فائقة الوضوح مع جودة المعنى، تحمّضت صور التعب في موسيقاه، بسرعة قياسية، فازدادت كدمات وجه الحقيقة الشاحب تورُّماً…

نصف الوصول ليس آمناً يا قلبي…

وتسديد ثمن التذكرة آلاف المرات لا يمنع نسيان موعد المطر، لذا لم يأتِ عيد ميلادي.

ما زلت أذكر الصرخة الأولى وكم كانت أنيقة، ومدوية، أعلى من صوت الرصاص الذي اخترق جسد وطني الممزق آنذاك فكان شاهداً على عتمة عُمرِيَ القادم… وأذكر جيداً كيف توحّدت تلك الصرخة معه في الضياع، ومن حينها أُخرست كل احتمالات النجاة…

 تُرى أَيُّ الخُفّين انتعلت تلك القابلة اللاقانونية عندما هرولت في ذاك الزقاق حتى نجت من الرصاص الطائش، واقتنصت فرصتي الأخيرة للحياة؟

وما زلت أردّد: لو كانت ترتدي القميص الأبيض، لو لم ترتجف يداها لما ارتجف إيقاع صرختي الأولى في حلق الليل، وما مالَ سريان الضوء في أحداقي حتى أكلَته العتمة… أَكانَ من الممكن ألا تحترق بطاقة وصولي؟ لو… لو…

لماذا ساقني الدرب الضيّق إلى الفراغ الدامس؟ مثل غيابك، يا أبي؟

 أستميحك عذرا يا أَبَتِ…

لم تفلح محاولتك إنقاذ صرختي بتسميتي (نجاة)، فات الأوان. فات الأوان وكانت الحياة قد ابتلعت لسانها وامتلأت رئتاي بغبار المشهد وتشبّعت بِتُخومِ الموت، بملح الحزن، برماد المنفى، بتخوم أسئلة جريحة الأبعاد… فلم أَصِل.

 عبَرتُ المسافة الأقصر ولم أَحظَ بالوصول…

وأتممت العقد الرابع، ولم أصل.

لا تحزن يا أَبَتِ… وماذا يفيد الاسم بعد صلبي على جدار العزلة كهامش في آخر صفحة جريدة؟

فمِن حينها يا أبي وأنا أجمع بقايا كسرات الوميض عكاكيز اتِّكاءٍ لِعُمرِيَ الأعرج… أمسك بالمفتاح، ولا وقت لديَّ، لا وقت لديّ وكم ناشدتُهُ أن يتمهَّل، لكن، أنا كُلَّما صَنعتُ عُكّازاً، جَفَّف وهج الوجع سيولة طيفه، وأطفأه قبل إتمامها (العكاكيز) وقبل اكتمال القطعة الأخيرة.

 ولم أصِل بعد…

تأخّرتُ عن الحياة يا أبي… ونصفُ الوصول أرداني شاعرة😢، لم يَفتدِها الشِّعر.

… كلّ الأطفال مصابون بالعناق ويأتي فطامهم… أما أنا فقد أُصبتُ بالقهوة ولم يَحِنْ بعدُ فطام مرارتها.. كم هو عنيدٌ فطامها…

 اتخذني الحزن رهينة، إلى أن يتعافى الوطن… الوطن الذي تزامن بكاؤه مع صرختي لحظة الوصول… ومن يومها لم تهدأ أصوات الحروب،

 لمْ يشفَ وطني،

 لم يعثروا على لقاح يقيهم طاعون الطائفية،

 وأنا… لم أعثر على قبري.

مثلك أنا يا وطني،

متشابهان نحن،

فكل الشعارات التي أُبرِّدُ بها جراحي لا تكفي للقفز فوق جمر الحقيقة.

أوَتعلم يا حبيبي؟ إنّ ما شعرت به ببصيرتك وشفافية روحك وطهر قلبك الورع المطمئن بمطلق التسليم لرب رحيم… وأخفيته،

لا أخفيك سِرَّاً يا أبت، الآن

الآن صرت أدركه…

الآن وأكثر من أيّ وقت مضى، أدرك جيداً سبب اختيارك لإسمي لحظة ولادتي…

لم أصل،

 لكنني أعدك:

سأنجو…

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*من روايتي الواقعية “الأفق الداكن”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى