أولى

جوهر الأزمة حول أوكرانيا: أميركا لمنع ألمانيا من التقارب مع روسيا وروسيا لإسقاط الأطلسي

} زياد حافظ*

مَن يتابع الهستيريا في الإعلام الغربي حول أوكرانيا يخرج بانطباعات متعدّدة تحاول السردية الغربية تثبيتها. أولى هذه الانطباعات هو «حرص الغرب» على الحفاظ على حرّية الدول الأوروبية التي كانت في فلك الاتحاد السوفياتي لتختار منظومتها السياسية والاقتصادية والأمنية في مواجهة «الخطر الروسي». تركّز النخب الحاكمة في الغرب وخاصة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة على أنّ الروس غير جديرين بالثقة وأنّ الرئيس الروسي يريد إعادة عظمة الاتحاد السوفياتي على حساب الدول الأوروبية «المحبّة» للحرّية.

الانطباع الثاني هو أنّ جوهر الأزمة هو حق أوكرانيا بالالتحاق بالحلف الأطلسي وأنّ هذا الحق مقدّس. لكن واقع الأمور هو عكس ذلك لأنّ الالتحاق بالأطلسي لا يتوقّف على رغبة أوكرانيا بل يتطلّب إجماع الدول الأعضاء على قبول ذلك. وهذا غير مؤكّد في الظرف الراهن.

الانطباع الثالث هو التحريض على المواجهة العسكرية بين أوكرانيا وروسيا دون أن تلتزم الولايات المتحدة وحليفتها المملكة المتحدة بالتدخّل العسكري المباشر لمساعدة اوكرانيا. تريد الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى المواجهة العسكرية حتى آخر جندي اوكراني! ومع هذا التحريض هناك ترويج بأنّ الاحتلال الروسي حتمي وقريب جداً وقد لا يتجاوز الأيام إنْ لم تكن الساعات المقبلة. من هنا الهرولة الاستعراضية على إخلاء أوكرانيا من المواطنين الأميركيين والبريطانيين وإخلاء السفارات الغربية. فكلّ ذلك خلق هلعاً استغربته الحكومة الأوكرانية وحتى في مواجهة مباشرة بين الرئيس الأوكراني زيلنسكي والأميركي بايدن حيث طلب زيلنسكي من بايدن التخفيف من الضجيج حول الاحتلال الروسي وكأنه حتمي. فليس هناك من أدلّة على الأرض تدلّ على ذلك الاحتلال الوشيك!

الانطباع الرابع هو العجز (أو عدم الرغبة) الأميركية البريطانية عن تنفيذ الحلول التي تمّت الموافقة عليها في 2015 وهي قرارات اتفاق مينسك وتحريض الحكومة الأوكرانية على رفضها. وللعلم فهده الاتفاقات وافق عليها مجلس الأمن للأمم المتحدة بالإجماع في قرار رقم 2202 في 17 شباط/ فبراير 2015.

فما هي الخيارات المتاحة للرئيس الأميركي بايدن؟ يجيب على ذلك السؤال سكوت ريتر المسؤول السابق عن فرق التفتيش لأسلحة الدمار الشامل في العراق والذي أصبح مناهضاً للمغامرات العسكرية الأميركية في العالم بشكل عام وفي الشرق الأوسط بشكل خاص. ويعتبر ريتر أنّ الوضع القائم في أوكرانيا لا يستطيع أن يستمرّ فإما الانفجار وإما التسوية. والخيارات المتاحة للرئيس الأميركي محدودة فإما يقود وإما يتبع وإما يرحل. وفي جميع الحالات الولايات المتحدة هي الخاسرة بسبب السياسات التي اتخذتها إدارة أوباما ومن بعدها إدارة بايدن إلى الخيارات البائسة.

لذلك لا بدّ من البحث في جوهر التوتر ويتبيّن أنّ المستهدف من تداعيات الأزمة هو ألمانيا من الجهة الأميركية بينما الهدف الروسي الاستراتيجي تفكيك وإلغاء منظومة الحلف الأطلسي في كل من أوروبا.

الأزمة بدأت في النصف الثاني من الولاية الثانية للرئيس الأميركي السابق باراك أوباما. ففي 2014 قامت الولايات المتحدة بحركة انقلابية ضد الرئيس الاوكراني المنتخب ديمقراطيا فيكتور ينوكوفيتش لأنه كان متردّدا بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي لأن ذلك كان قد يقضي على الامتيازات الاقتصادية الخاصة مع روسيا. هذه هي الذريعة بينما الهدف الأميركي كان استكمال محاصرة روسيا بدءاً بدول البلطيق ثم بولندا شمالاً وجنوباً برومانيا. لكن المحاصرة المباشرة لم تكن لتكتمل لولا أوكرانيا وبلاروسيا خارج الإطار المطلوب. اعتبرت الإدارة الأميركية ان العداء لروسيا من قبل شرائح واسعة في أوكرانيا قد يجعل الانقلاب مقبولاً كخطوة أولى تليها انقلابات اخرى في بلاروسيا في مرحلة لاحقة. نجح الانقلاب في أوكرانيا في 2014 ولكنه فشل في بلاروسيا في 2021. المهم هنا أن النتيجة للانقلاب في أوكرانيا خسارة اوكرانيا شبه جزيرة القرم التي تحتوي على أكبر قاعدة بحرية للأسطول الروسي في مدينة سبستبول على شاطئ البحر الأسود. فأكثرية السكّان في شبه جزيرة القرم من الروس تليها اقلّية من التتار ونسبة اقل من الاوكرانيين. أغلبية سكان شبه جزيرة القرم رفضت الحكومة الانقلابية التي لم تخف رغبتها في تطهير العنصر الروسي من أراضيها أو إخضاعه لقرارات تعسّفية تقضي برحيله. لذلك كانت الرغبة في كل من شبه جزيرة القرم الانضمام الى روسيا عبر استفتاء رفضته الحكومة الأوكرانية ومعها دول الغرب بشكل عام والولايات المتحدة والمملكة المتحدة بشكل خاص. فاعتبرت انضمام القرم إلى روسيا استيلاء روسيا عليها وتجاهلت رغبة السكان. أراد أيضاً سكان مقاطعة الدومباس وخاصة مدن دونتسك ولغانسك حيث أكثرية السكان من الروس أيضاً الالتحاق بروسيا، لكن الأخيرة تريّثت واعتبرت المقاطعة تحت حكم ذاتي وتحت سيادة أوكرانيا وإن كانت ملتزمة بحماية الرعايا الروس. التوتر المستمر في أوكرانيا منذ الانقلاب غير الديمقراطي محوره محاولات حكومة كييف للسيطرة على المقاطعات الروسية المتمرّدة والتي تطالب بحكم ذاتي أو الانضمام إلى روسيا.

في خضم الصراع القائم قامت مستشارة المانيا انجيلا ميركل سنة 2015 بمطالبة الرئيس الروسي بناء أنبوب للغاز السائل يتجاوز الانبوب الذي يمد المانيا بالغاز والذي يمر بأوكرانيا. توتر العلاقات بين أوكرانيا التي ترفض دفع المستحقات لروسيا أوجبت قطع الإمداد بالغاز ما جعل المانيا تحت رحمة المزاج الاوكراني. فخط أنبوب الغاز الشمالي المعروف بـ نورستريم 2 هو مشروع الماني بامتياز ولكن بتنفيذ روسي ولتزويد المانيا. هنا يكمن جوهر الصراع التي تقوده الولايات المتحدة ضد كل من روسيا وألمانيا وبشكل غير مباشر الاتحاد الأوروبي.

معارضة الولايات المتحدة للخط السائل الشمالي الثاني لها عدّة أسباب. أولا إن الخط يساهم في دعم الاقتصاد الروسي عبر تثبيت السوق الأوروبي له. ثانيا، إن الخط الثاني يساهم في تعزيز العلاقات الثنائية بين روسيا وألمانيا، وهذه العلاقات تحتوي على تقارب وتماهي في المواقف السياسية والاقتصادية والأمنية ما لا تريده الولايات المتحدة. هنا يجب استذكار المقولة الشهيرة التي تبرّر إنشاء الحلف الأطلسي وهي لتحقيق ثلاثة أهداف: أولا إبقاء روسيا خارج أوروبا، إبقاء المانيا في الدرك الأسفل، والولايات المتحدة في داخل أوروبا. التقارب الروسي الألماني الذي يحققه نورستريم 2 ينسف قاعدة وجود الحلف الأطلسي. ثالثاً، التقارب الروسي الألماني يخلق مناخاً سياسياً واقتصادياً في أوروبا يجعل الوجود العسكري في أوروبا غير ذي جدوى؛ وهذا ما تعارضه الإمبراطورية الأميركية.

اللقاءات المتتالية بين المسؤولين الأميركيين والروس كشفت عدم رغبة الولايات المتحدة بالتفاوض حيث حوّلت مفهوم الدبلوماسية إلى فرض إملاءات وشروط وعدم الاعتراف بهواجس روسيا. التنكّر لتلك الهواجس جعل التفاهم مع الولايات المتحدة من الأمور الصعبة كي لا نقول المستحيلة طالما الولايات المتحدة تعتبر نفسها فوق أي اعتبار قانوني واخلاقي يقيّد حرّية تحرّكها ومصالحها. لذلك كان لا بد لروسيا إجبار الغرب على أخذ الهواجس الروسية بجدّية وإلاّ لا استقرار في أوروبا وبالتالي في الغرب.

من الواضح أن الدبلوماسية الروسية تصرّفت وقفا لخطة رسمها لاعب شطرنج يأخذ بعين الاعتبار كافة الاحتمالات للرد من قبل الخصم ويجبره على ارتكاب أخطاء تحسم نتيجة المبارزة. بالمقابل اعتمدت الدبلوماسية الأميركية ومعها البريطانية استراتيجية لعبة البوكر حيث اللاعب يوحي بامتلاكه أوراق رابحة لإجبار الخصم على التراجع والخروج من الحلبة. لعبة البوكر قد تكون مجدية في بعض الأحيان وهي لا تتعدّى مرحلة التكتيك بينما لعبة الشطرنج تتطلّب امتلاك استراتيجية واضحة وتكتيك مناسب يستطيع أن يستوعب ردّة فعل الخصم.

بناء على ذلك يصبح السؤال ماذا بعد؟ هل هناك حرب مقبلة في أوروبا قد تمتد إلى العالم؟ من الواضح أن رغم الهستيريا الإعلاميّة في الغرب ليست هناك قناعة بأن المواجهة العسكرية قائمة. موقف الولايات المتحدة واضح وهو أنها لن تتدخل عسكرياً في أوكرانيا بل ستلجأ إلى سلّة من العقوبات «بمنتهى القسوة» إذا ما أقدمت روسيا على احتلال أوكرانيا. لكن هذه العقوبات ستضر حلفاء الولايات المتحدة أكثر مما ستضر بروسيا التي أصبح ظهرها الاقتصادي محمياً من قبل الصين. فأوروبا الغربية هي التي ستدفع الثمن أولا عبر فقدان التزويد الروسي لها بالغاز ما يجعل كلفة تشغيل الاقتصاد الغربي باهظاً. وليس باستطاعة أوروبا تغطية النقص في الغاز من مصادر أخرى إلاّ عبر الغاز الأميركي العالي الكلفة. والفرق بالكلفة ليس ببسيط حيث كان سعر ألف متر مكعّب من الغاز الروسي بحوالي 100 دولار في صيف 2020 بينما أصبح اليوم يتجاوز 1،300 دولار للألف المتر المكعّب، أي أكثر من 13 ضعفاً. وإذا ما فرضت العقوبات كإيقاف السيل الشمالي الثاني فلا سقف لسعر الألف المتر المكعّب. ماذا سيحصل عندئذ للاقتصاد الأوروبي «الحليف» للولايات المتحدة؟

نعتقد أن الأزمة على وشك أن تستنفد أغراضها على الأقل بالنسبة لروسيا والأوروبيين. فهي كالقطار الذي ينتقل من محطة إلى محطة ويركبه العديد من الأشخاص المختلفين في الآراء والاهداف طالما أن القطار يلبّي أغراضهم ولكن سيتركونه عندما ينتهي الغرض. من الواضح أن روسيا استفادت من الأزمة كما الولايات المتحدة منها. من أطلق إشاعة الاحتلال الروسي في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2021 جاك سوليفان مستشار الامن القومي الأميركي كما أوضحه التحقيق الذي يقوده جون درهام المحقق الخاص لوزارة العدل الأميركية حول التجسّس على حملة ترامب. المهم هنا هو أن سوليفان هو مَن أطلق القطار الذي ركبه المحافظون الجدد ثم المتدخلون الليبراليون ثم جماعة بايدن ثم القيادات الروسية لأغراضهم الخاصة. فهؤلاء مصرّون على مواجهة مع روسيا بينما الرئيس الأميركي يعتقد أن الضجيج الإعلامي حول مواجهة مع روسيا قد يصرف الأنظار عن التخبّط في الوضع الداخلي المتفاقم.

 لكن على ما يبدو لم يعد للقطار أية جدوى. من أظهر عدم جدوى القطار هو وزيرة الخارجية الألمانية المعروفة بأطلسيتها وعدائها لروسيا. ففي زيارتها لموسكو في الشهر الماضي أعربت عن ضرورة التفاهم مع روسيا لأن عواقب الأزمة ستكون وخيمة على أوروبا بشكل عام وألمانيا بشكل خاص. يبدو أن بعض الجهات في الإدارة الأميركية بدأت استدراك خطورة الوضع وإن لم تقر حتى الساعة بشكل واضح بمشروعية الهواجس الروسية في عدم تجزئة الأمن في أوروبا. ليس من الواضح ما يمكن أن تقدم عليه الإدارة الأميركية ولكن أجواء تخفيف التصعيد بدأت تسيطر عند الطرفين. فالحكومة الروسية أعلنت عن انتهاء «مناوراتها العسكرية» قرب الحدود الأوكرانية وبدأت بسحت بعض الوحدات. كما أنه تم «تسريب» سؤال من الرئيس الروسي لوزير خارجيته لافروف حول جدوى الاستمرار بالمفاوضات حيث أجاب الأخير بأن المجال ما زال متسعاً في ذلك الإطار. لكن بالمقابل قامت الولايات المتحدة بإقفال سفارتها في كييف ونقل معظم الموظفين إلى مدينة لفيف في أقصى شمال غرب أوكرانيا على قرب من الحدود البولندية وكأنها «تسلّم» شرق ووسط البلاد لروسيا! لكن الحكومة المركزية الأوكرانية استغربت ذلك الإجراء ما يدلّ على ان التنسيق بين الإدارة الأميركية والحكومة الأوكرانية غير قائم أو معطّل.

من هذه الزاوية يجب النظر إلى القمة الروسية الفرنسية التي حصلت في مطلع هذا الشهر والاتصالات المتتالية بين الرئيسين التي سبقتها ولحقتها. كما أن القمة الروسية المجرية أوجدت ثغرة كبيرة في الأطلسي، حيث تفهّم رئيس الوزراء المجري فيكتور اوربان الهواجس الروسية وضرورة إيقاف التوسع شرقاً للحلف الأطلسي. هذا يعني أن اعتراض المجر على إدخال أية دولة جديدة في الأطلسي كأوكرانيا أو جورجيا لن يحصل لأن الموافقة على دخول دولة جديدة في الحلف يستوجب إجماعاً وفقاً لميثاق الأطلسي. من جهة أخرى فإن زيارة المستشار الألماني شولز إلى موسكو هذا الأسبوع بعد زيارته الأسبوع الماضي للبيت الأبيض والحرج الذي سبّبه الرئيس الأميركي له عبر التهديد بإقفال السيل الشمالي الثاني للغاز يأخذ أهمية كبرى. ولا بد أيضاً من تسجيل الزيارة المرتقبة لوزير الخارجية البولندية لموسكو خلال الأسابيع المقبلة ما يؤكّد أن المزاج الأوروبي لا يقبل ان تتحوّل أوروبا إلى مسرح عمليات عسكرية تدفع ثمنها شعوبها ودولها. فما زالت ذكرى الحرب العالمية الثانية مترسّخة في الذاكرة الجماعية للأوروبيين.

لكن كل هذه التطوّرات لا يمكن أن تغيّب عن بالنا أن التراجع الغربي وخاصة الأميركي يواكبه تقدّم للكتلة الاوراسية بما فيها روسيا. المواجهة مع روسيا غير مجدية بل عبثية بالنسبة للغرب حيث التفاهم مع روسيا أكثر فائدة من المواجهة معها. لكن الاعتبارات العقائدية من جهة التي تتسم بها القيادات الأميركية التي ما زالت تسيطر عليها عقلية الحرب الباردة والأحقاد الشخصية من جهة أخرى ضد روسيا وجميعها لأسبابها الخاصة تساهم في خلق أزمة مصطنعة يمكن تجنّبها ونتائجها الكارثية على الجميع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*باحث وكاتب اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى