أولى

ما اتجاهات الصراع في أوكرانيا بعد الأسبوع الأول؟

 العميد د. أمين محمد حطيط*

تجنّبت دول الغرب المتحالفة في إطار الحلف الأطلسيّ خوض الحرب ضدّ روسيا مباشرة وامتنعت عن أن توجه إليها الجيوش النظامية التي تنتظم في إطار هذا الحلف الذي يدّعي انه لا يزال حلفاً عسكرياً دفاعياً مهمته حماية أراضي الدول الأعضاء من أيّ اعتداء خارجي؛ وهو ادّعاء يخالف الحقيقة التي تثبت وقائعها انّ الحلف تحوّل منذ عقود ثلاثة الى حلف هجومي يمارس العدوان خارج الشرعية الدولية وخلافاً لأحكام القانون الدولي العام وبعيداً عن قواعد الدفاع المشروع عن النفس. ومع هذا تجنّبت دول الحلف التوجه الى الميدان الأوكراني لمواجهة الجيش الروسي و»الدفاع عن أوكرانيا» بذريعتين؛ الأولى انّ أوكرانيا ليست عضواً في الحلف، وبالتالي لا تتمتّع بحقّ تدخل الحلف للدفاع عنها، والثانية انّ الحلف يتجنّب الدخول في صراع عسكري مباشر مع دولة نووية لا بل الدولة النووية الثانية في العالم التي تكاد تملك ما يلامس ٧ آلاف رأس نووي.

بيد انّ امتناع دول الحلف الأطلسي عن الدخول في الحرب المباشرة لا يعني أنها تركت الأمر في أوكرانيا وابتعدت عنه، لا بل على العكس تماماً حيث انّ تلك الدول اعتمدت استراتيجية التوريط والإغراق ودفع روسيا الى حرب استنزاف عسكري ميداني مترافق مع حرب اقتصادية شاملة خانقة للاقتصاد الروسي وفي ذهنها ونيتها كسر روسيا من غير التورّط في حرب معها ولذلك نظمت مواجهتها لروسيا على مسارين مسار عسكري ميداني يقوم على فرعين أولهما دعم الجيش الأوكراني بمدّه بالأسلحة والذخائر والتجهيزات التي تلزمه للقتال، والثاني تجنيد المرتزقة وتحشيد الإرهابيين والمسلحين من شتى الدول والقوميات للقتال ضدّ الجيش الروسي الذي تريد المجموعة الغربية إغراقه في الوحول الأوكرانيّة واستنزافه حتى إخراجه من المسرح مهزوماً وتكون الحرب الاقتصادية المنوّه عنها أعلاه عاملاً ضاغطاً ومسرعاً للوصول الى هذه النتيجة.

في مقابل ذلك يبدو أنّ القيادة الروسية متيقظة للخطة الأميركية ولذلك خططت في البدء لعمليتها العسكرية النوعية الخاصة بشكل يجعلها تستجيب لاستراتيجية «العمل العسكري الضاغط» من أجل الدخول الى التفاوض المريح الذي يمكن من الاستجابة او يفرض على الطرف الآخر الاستجابة الى طلبات المهاجم. فروسيا لم تعتمد حتى الآن خطة الاحتلال والسيطرة وليس بنيتها احتلال أوكرانيا، فأهدافها معلنة ومحددة ربطاً بالأمن القومي الروسي وبأمن الأشخاص الروس على جانبي الحدود ولا يمكنها ان تساكن دولة جارة تفتح أبوابها لمن يصنف روسيا عدواً ويعمل على محاصرتها وإسقاطها وحرمانها من موقعها في الخريطة الاستراتيجية الدولية.

إذن بات الصراع في أوكرانيا اليوم محكوماً باستراتيجيتين أولى روسية تهدف الى دفع الطرف الأوكراني الى تفاوض يفضي الى تلبية الاحتياجات الروسية الأمنية والاستراتيجية وتتوخى حسم المسالة بأسرع وقت ممكن مع المحافظة على المدنيين وحقوقهم والملك العام، وثانية أطلسية غربية ترمي الى إطالة أمد الصراع وإدخال روسيا في حرب استنزاف لسنوات طويلة تمكن من تحييدها عن الصراعات الدولية والإقليمية وبشكل خاص ملفات الشرق الأوسط. والآن يطرح السؤال أيّ من الفريقين سيفرض إيقاع استراتيجيته على الآخر؟

في عودة الى الساعات الأولى من العملية العسكرية الروسية، نرى انّ العملية كادت ان تحقق أهدافها اذ قبل مضي ٢٤ ساعة على بدئها طلب الرئيس الأوكراني زيلينسكي الجلوس الى طاولة التفاوض مع روسيا التي استجابت فوراً وأوقفت العملية العسكرية على كافة المحاور مؤكدة أنها تريد الحلّ وانّ القتال فرض عليها فقبلت به وسيلة ضاغطة من اجل التفاوض، لكن الغرب وأميركا الممتنعين عن المشاركة بقواتهم في المواجهة ضغطوا على الرئيس الأوكراني فتراجع عن عرضه التفاوض، ما حمل القيادة الروسية على استئناف العملية العسكرية على كافة المحاور دونما تغيير في أهدافها التي بقيت ملتزمة بمفهوم الضغط من أجل التفاوض، وبالفعل وبعد ٥ أيام نجح هذا الضغط في المجيء بالقيادة الأوكرانية الى قاعة المفاوضات في بيلاروسيا.. ولكن هل ستصل تلك المفاوضات الى نتيجة توقف الأعمال العسكرية؟

رغم أننا نتمنّى ان نشهد خاتمة سريعة لتلك الأعمال العسكرية على المسرح الأوكراني، لكننا ووفقاً للمعطيات المتوفرة لا يبدو انّ الحلّ بات قريباً مع إصرار أميركي أوروبي على شطب روسيا من المعادلة الدولية والعودة بها ٣٠ عاماً الى الوراء، أيّ الى حال الوهن والتهميش التي عرفته بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، وانّ الغرب مرتاح للمشهد هذا، حيث انه يقاتل روسيا في حرب لا يقدّم وقودها من رجال ومال وأرض بل يحارب على أرض الغير وبدماء ورجال الغير وأموال الغير وجلّ مساهمته تنحصر بمساعدات عسكرية محدودة الكلفة وبحرب اقتصادية هي الوحيدة التي قد تلحق الألم بالغرب، لانّ هذه الحرب الاقتصادية سيف ذو حدين لا بدّ لأوروبا أن تتضرّر منها.

أما روسيا وهي تدرك ذلك فإنها تحسب خطواتها بدقة وتضع خطوطاً حمراء في المواجهة والمسارات، خطوطاً في مسائل أساسية محددة لا ولن تسمح بتجاوزها وهي أولاً رفض حرب الاستنزاف والحؤول دون استعادة تاريخ أفغانستان مع الاتحاد السوفياتي، ثانياً رفض تحوّل أوكرانيا الى بؤرة إقلاق وقلاقل لها تفسد أمنها القومي وأمن الأشخاص الذين ينتمون اليها، وأخيراً الرفض المطلق للأداء الغربي الذي يتلاعب بدماء الآخرين ويبقى بعيداً عن الأذى.

لهذا وعملاً بالخطوط الحمر تلك فإنّ لعبة الغرب في إطالة أمد الصراع على الأرض الأوكرانية واستنزاف روسيا فيها لن تمرّ في الميزان الروسي، ولذلك كان التهديد الروسي بالسلاح النووي إشارة روسية واضحة الى استعداد روسيا لتوسيع ميدان المواجهة ورفضها للخطة الغربية. فالنووي لا يهدّد أوكرانيا به بل قطعاً هو تهديد مباشر للأطلسي الذي يسعّر النار في أوكرانيا، ولذا قرّرت روسيا أن تفهمه بأنه سيحرق أصابعه أيضاً بالنار التي يسعّرها.

في النتيجة… ولأنّ الغرب فهم ذلك ولأنّ الضغط الميداني الروسي بات أكثر تأثيراً، استجاب زيلينسكي لمقتضيات التفاوض وسمح الغرب له بإرسال وفد للمفاوضات، لكن هذا لا يعني انّ الحلّ قد اقترب، اذ انّ الأمور لا تزال مرشحة للخروج عن إطارها الحالي لتتوسع من حيث أطراف النزاع ومساحة المسرح وطبيعة المواجهة مع احتمال التغيير في الاستراتيجية الروسية بالتحوّل من الضغط من أجل التفاوض الى السيطرة وإقامة النظام السياسي المناسب لها في أوكرانيا مع ما يستتبع هذا التحوّل من تغيير في طبيعة العمليات العسكرية وعمقها ومداها والمستهدفين بها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أستاذ جامعيّ ـ باحث استراتيجيّ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى