أولى

ما بعد الحرب الأوكرانيّة هو الأخطر…!

 د.عدنان منصور _

 القرار الذي اتخذه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يوم 24 شباط الماضي، أعطى الضوء الأخضر للجيش الروسي للقيام بعملياته العسكرية الواسعة النطاق في أوكرانيا، بعدما باتت السياسات العدائية الأوكرانية ـ الأميركية ـ الأوروبية، تشكل بنظر روسيا تهديداً خطيراً لأمنها القومي لا يمكن السكوت عنه.

 هذا الإجراء رأت فيه موسكو أنه لا بدّ منه، بعد محاولات لم تتوقف من قبل واشنطن والاتحاد الأوروبي، للعمل على ضمّ أوكرانيا الى الاتحاد الأوروبي ومن ثم الى الحلف الأطلسي. إضافة الى ذلك صعود النزعة النازية لمجموعات وفصائل أوكرانية، وقيامها بارتكاب أعمال عدوانية ضدّ المواطنين الناطقين بالروسية في دونباس وأنحاء عديدة من أوكرانيا، وبناء مختبرات بيولوجية وبكتيريولوجية تشكل تهديداً خطيراً لشعوب الاتحاد الروسيّ لا يمكن لموسكو السكوت عنه.

 إذا كانت موسكو ترى أنّ لها مبرّراتها التي لا تسمح لها بالتفريط في أمنها القومي، وسلامة شعبها، وهي تشنّ الحرب على أوكرانيا، فإنّ تساؤلات منطقية، وهواجس ومخاوف من جانب آخر، تطرح نفسها بكلّ قوة على الساحة الدولية، لجهة السياسات المستقبلية، وسلوك الدول الكبرى الأخرى في العالم في ما بعد الحرب الأوكرانية، وما يمكن لها أن تفعله وتقوم به!

هل سيقتصر نموذج ودوافع هذه الحرب على روسيا وأوكرانيا، وينحصر في دائرته الجغرافيّة ام سيتجاوز المجال الحيوي الروسي ـ الأوكراني، ليصل الى مناطق جغرافية عديدة في العالم، تشهد توترات وأوضاعاً ساخنة؟

هل ستشجع الحرب الأوكرانية بعد اليوم القوى الكبرى، وبالذات تلك التي حفل سجلها بالحروب العدوانية التي شنتها على بلدان عديدة، ولطخت أياديها بدماء شعوبها، كي تندفع بكلّ شراسة، وتفعل ما تريد أن تفعله تجاه دول صغيرة، بمعزل عن القانون الدولي، والأمم المتحدة ومجلس الأمن فيها، «مستلهمة» من «التجربة» الروسية، وإن اختلف الأمر في المسبّبات، والموجبات، والشكل والظرف والمكان؟!

مَن سيكبح جماح واشنطن بعد اليوم، وهي تستند دائماً الى سلطتها الاستبدادية، التعسّفية، الاستنسابية، أن تتصرف حيال دول في العالم كما تشاء، دون أسباب محقة، وفقاً لمعايير وذرائع وأهداف تضعها وتحدّدها لنفسها، تتيح لها وتخوّلها استخدام قوّتها العسكرية متى أرادت، في حديقتها الجنوبية في أميركا اللاتينية، وفي أنحاء مختلفة من العالم؟!

 واشنطن التي لم تستطع أن تضع نفسها في مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا في أوكرانيا، مُنيت بخيبة معنوية مكبّلة اليدين مرغمة، وإن دعمت كييف سياسيا وإعلاميا وماليا، ولوجستيا، وزوّدتها مع حلفائها الأوروبيين وغير الأوروبيين بالمعدات العسكرية لمواجهة الجيش الروسي. فهذا الدعم الذي هو بمثابة ذر الرماد في العيون، لا يعوّض بالمطلق القيود على تحرّكها.

قيود ولا شك مسّت بمكانتها وهيبتها، وحالت دون أن تتجرأ واشنطن على مواجهة روسيا مباشرة في الميدان، نظراً لما تملكه كلّ من الولايات المتحدة وروسيا من أسلحة الدمار الشامل، التي تحقق توازن الردع بينهما، وبالتالي تبعدهما عن أيّة مواجهة عسكرية مباشرة. إذ لن يقبل ايّ طرف من الطرفين بهزيمة عسكرية او معنوية تطال مكانته العالمية، وهيبته على الساحة الدولية.

 لكن إذا كان واقع الحال هذا ينطبق على الحرب الأوكرانية، فإنّ الأمر يختلف خارجها.

 من يمنع الولايات المتحدة بعد اليوم، مستغلة تجربة التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، كي تستخدم القوة متى أرادت وشاءت خارج أوروبا، وتضرب ضربتها، اذا ما رأت أنّ نظاماً سياسياً لدولة صغيرة ما، يشكل إزعاجاً لها، ويهدّد مصالحها، ولا يتماشى أو يتناغم مع أهدافها وتوجهاتها السياسية والاستراتيجية؟!

 من يمنع الصين أن تخطو خطوتها التاريخية باتجاه تايوان، متجاهلة المنظمة الدولية، وتلجأ الى استخدام القوة العسكرية لاستعادتها من جديد، حيث بكين تعتبر تايوان إقليماً متمرداً، وجزءاً لا يتجزأ من الأرض الصينية، منذ ان فرّ إليها الزعيم الصيني شان كاي شك، وأسّس جمهورية الصين الوطنية عام 1949، وفصلها عن الوطن الأمّ؟!

 من يمنع روسيا أن تقوم مرة ثانية وثالثة، بالتدخل العسكري في دول تشكل لها تهديداً مباشراً لأمنها القومي ومجالها الحيوي، وسلامة شعبها، مثل ما يحصل وحصل في أوكرانيا، وجورجيا، وكازاخستان، والقرم؟!

 من يمنع كوريا الشمالية أن تستمرّ في تطوير أسلحتها النووية، وصواريخها البالستية، وأسلحة الدمار الشامل بما فيها الأسلحة البيولوجية والبكتيريولوجية، وان تهدّد بها «شقيقتها» كوريا الجنوبية، وتمارس الضغط عليها، والقيام بعمل عسكري ضدّها، متى رأت انّ الوقت مناسب لعودتها الى الوطن الأمّ! فهل ستكون واشنطن على استعداد لمواجهة نووية مباشرة مع بيونغ يانغ، من أجل سيول، أم انّ قرارها لن يختلف عن القرار الذي اتخذته حيال روسيا في أوكرانيا!

 روسيا قامت بعملياتها العسكرية في أوكرانيا، والغرب اكتفى بالتنديد وفرض العقوبات الاقتصادية والمالية والإعلامية، والطاقوية عليها، وزوّد أوكرانيا بكافة وسائل الدعم المالي، واللوجستي، والمعدات الحربية. إلا أنه تجنب الدخول في مغامرة حرب مباشرة وجهاً لوجه، قد تفلت من عقالها، قد تستخدم فيها أسلحة فتاكة تدمّر الجميع.

 وجود الدول الكبرى في الميدان، وحيازتها على السلاح النووي، يثبت المعادلة ويضبط تصرفاتها. لكن هذه المعادلة وللأسف، لا تسري على دولة نووية ودولة عادية لا تستطيع المواجهة والردع.

 استناداً الى هذا الواقع، من يمنع الولايات المتحدة بعد الآن، من شنّ الحروب والقيام دون وجه حقّ، وتحت ذرائع واهية، بأعمال عدوانيّة مباشرة ضدّ دول ضعيفة، في الوقت الذي ستكتفي فيه القوى الكبرى الأخرى في العالم بالتنديد، والشجب والإدانة والاستنكار، محيّدة نفسها عن الردع العسكري المباشر!

 بعد حرب أوكرانيا، هل ستندفع «إسرائيل» وتتشجّع على تنفيذ خطتها الكاملة في الضفة الغربية لتهويدها وطرد سكانها، والاستماتة من أجل القضاء على المقاومة، غير مكترثة بالمجتمع الدولي، وقرارات الأمم المتحدة، وهي المدعومة بالمطلق من قبل الغرب ـ والولايات المتحدة بالذات! ألم يهدّد رئيس الاركان «الإسرائيلي» أفيف كوخافي، بعد عودته من البحرين مؤخراً، باجتياح قطاع غزة، واحتلال المدن الفلسطينية، على غرار عملية «الدرع الواقي» التي نفذها جيش العدو عام 2002 على حدّ قوله، لوقف الانتفاضة الفلسطينية الثانية، ومهدّداً أيضاً، انه بإمكان الجيش «الاسرائيلي» تكرار ما فعله عام 2002 في غزة أيضاً وبطريقة أكثر فعالية، وانّ الجيش لديه الإمكانية لاحتلال المدن الفلسطينية وإدارتها والوصول الى كلّ مكان؟!

 من يمنع تركيا بعد الحرب الأوكرانية، من التمادي في عدوانها، وأن توسع نطاق احتلالها في مناطق العراق وسورية، مدعومة من واشنطن وحلفها العسكري؟!

 أسئلة كثيرة ومتشعّبة تطرح نفسها، لتكون مدار اهتمام وبحث، لحالة العالم ما بعد الحرب الأوكرانية، التي ستختلف بالتأكيد عما قبله.

 قوى دولية، وتحالفات، واستقطابات، وتموضعات جديدة ستفرزها الحرب، وستدفع بأكثر من جهة دولية كبرى كي تعيد حساباتها، وتطلق العنان لسياساتها غير مبالية بالأمم المتحدة، والمجتمع الدولي، طالما هناك فيتو تطرحه الدول الكبرى داخل مجلس الأمن، يعطل أيّ قرار ضدها.

 حرب أوكرانيا ستؤدّي الى إحداث تغييرات، وإعادة النظر في العلاقات السياسية، والاقتصادية، والتجارية، والمالية بين الدول، إذ لن يعود هناك قطب واحد يتحكم بالعالم، وإنما أقطاب، ولكل قطب مجاله الحيوي، وأمنه القومي، ومصالحه الاقتصادية والاستراتيجية.

 ما ينتظر الأقطاب، حروب اقتصادية ومالية وتجارية ومالية ساخنة، سينجم عنها محاور وتحالفات اقتصادية حادة وشرسة على الساحة العالمية. فإن كانت الدول الكبرى لم تستطع أن تستخدم القوة العسكرية لتحقيق مآربها وأهدافها تجاه بعضها البعض، فإنّ هناك أسلحة اقتصادية ومالية فعّالة، بإمكانها أن تحلّ مكان القوة العسكرية، وتحقق لمن يستخدمها جزءاً كبيراً من أهدافه، وان كانت على حساب الشعوب والدول الصغيرة التي لا حول لها ولا قوة.

 إنه عالم الأقوياء، لا مكان فيه للضعفاء وإن آثروا الاحتماء وهماً بالقانون الدولي، وشرعة الأمم المتحدة!

*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى