أولى

زيلينسكي الكوميديّ… أضحك شعبه على المسرح وأبكاه في ميدان القتال!

 د. عدنان منصور*

 كثرٌ هم الحكام في العالم الذين يتصوّرون أنفسهم أنهم رقم صعب في معادلة الدول إقليمياً كان أم دولياً. هذا الصنف من «الزعماء»، يعتقد أنه يستطيع أن يؤثر، أو يضغط، أو يساوم أو يساهم في صنع القرار الإقليمي أو الدولي، وأن يحقق له ولبلده ما يريده ويطمح إليه، دون الأخذ بالاعتبار التوازنات على الساحة الدولية، ومصالح الدول الكبرى، وتأثيرها على مجريات الأحداث.

 رئيس أوكرانيا زيلينسكي، الكوميدي السابق، والرئيس اللاحق، هو واحد من هؤلاء المغامرين، الذي ظنّ نفسه أنه جزء لا يتجزأ من معادلة أوروبية أطلسية، يستطيع أن يذهب بعيداً في سياساته الإقليمية، وإنْ كانت على حساب الأمن القومي، والاستقرار وسلامة شعب، لدولة عظمى تربض على حدود بلده.

لم يأبه زيلينسكي للتحذيرات، والتنبيهات، والتهديدات الصادرة عن روسيا الاتحادية على مدى عدة سنوات، والممارسات الاستفزازية التي اتبعها ضدّها، غير عابئ بهواجس وقلق الروس، جراء التواصل والتنسيق بين أوكرانيا والحلف الأطلسي، ومحاولة هذا الأخير التمدّد الى حدود روسيا، لتطويقها وحصارها، ومن ثم تحجيم دورها.

 لم يكترث زيلينسكي لأنياب موسكو القاتلة، بل راهن على الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والحلف الأطلسي، كي يكونوا له الرافعة في أيّة مواجهة عسكرية مع الجيش الروسي.

أصرّ زيلينسكي على التحدي، متوهّماً أنه سيحقق ما يريده، وينفذه، على اعتبار أنه لن يكون وحده في الميدان، وانّ واشنطن ومعها الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي، سيكونون بالمرصاد أمام أيّ زحف روسي على أوكرانيا، وأنهم قادرون على دحر الجيش الروسي على أبواب أوكرانيا، كما دحر الروس جيوش نابليون وهتلر على أبواب موسكو وستالينغراد.

 كم كانت حسابات زيلينسكي واهية، وهو يستجدي تدخل الولايات المتحدة، وأوروبا، والحلف الأطلسي، للدفاع عن أوكرانيا وأمن أوروبا، وعن قيم الحرية والديمقراطية فيها. فإذا به يجد نفسه في مستنقع لا يعرف كيفية الخروج منه، وهو الذي قال بعد أيام قليلة من بدء الحرب الروسية على أوكرانيا، إنه تُرك وحده! وهل كان زيلينسكي يتصوّر انّ واشنطن وأوروبا وحلفهما الأطلسي سيخوضان الحرب ضدّ روسيا، ويشعلان الحرب العالمية الثالثة من أجله وأجل أوكرانيا، وإنْ زوّدوه بالعتاد والسلاح والغذاء، ودعموه سياسياً، وإعلامياً، ولوجستياً، ومالياً، واحتضنوا اللاجئين الفارّين من مناطق القتال!

 هل أدرك زيلينسكي أنه دخل في ساحة الكبار، وأنه ليس بالرقم الصعب في المعادلة الدولية كما تصوّر؟! وهل أدرك مسبقاً انّ توازن القوى النووية لا تسمح بالمواجهة العسكرية الساخنة بين الدول العظمى، وإنْ سمحت بالمواجهة بين الكبار والصغار، طالما أنّ الأحداث والمعارك تدور خارج إطار حدودها، ولا تدفعها لزجّ نفسها في حرب شاملة مباشرة محفوفة بالكوارث والدمار الشامل!

 ألم يكن في مقدور زيلينسكي، تفهّم رغبة، وهواجس، وقلق موسكو، وذلك بإبعاد أوكرانيا عن ساحة الحرب التي شرّدت الملايين، ودمّرت المدن والقرى، والمعالم، والبنى التحتية، وأزهقت أرواح عشرات الآلاف من البشر!

ألم يكن بمقدور زيلينسكي أن لا يجعل الأرض الأوكرانية، ساحة للمختبرات البيولوجية، والبكتريولوجية، التي تهدّد بلده قبل ان تهدّد الدول المجاورة!

لصالح مَن؟ وضدّ مَن؟ وفي خدمة مَن؟ هذه المختبرات التي كانت وراءها الولايات المتحدة؟! في عالم الكبار، لا يظنّن رئيس مغامر، معتدّ بنفسه، انه يستطيع أن يخرق معادلتهم، وإيجاد معادلة جديدة تصبّ في صالحه. أقصى ما يمكن له أن يفعله هو تحييد وتحصين بلده، دون الانزلاق في النفق المظلم المجهول الذي لا يعرف أحد نهايته.

إنّ الدول الصغيرة غالباً ما تكون كبش فداء للدول الكبرى، لا سيما أثناء أزماتها ومواجهاتها المباشرة، حيث تترك هذه الدول لقدرها، ومصيرها المحتوم، أمام أنظار العالم، والأمم المتحدة،

ومجلس الأمن وهو يراقب، ويتابع، ويتأسّف، وفي أحسن الأحوال يستنكر ويندّد ويفرض العقوبات!

هل أدرك زيلينسكي أثناء هذه الحرب الدائرة في بلاده، أنه لم يكن إلا كبشاً من كبوش واشنطن وحلفها الأطلسي، وأنّ أوكرانيا ما كانت له إلا المذبح!

زيلينسكي ليس في وضع يُحسَد عليه، وهو السبب في ذلك. فالكوميدي الذي أضحك لسنوات شعبه على المسرح، تجده اليوم رئيساً يُبكي شعبه في ميادين القتال! فهو وإنْ أخذ العبرة مما جرى، فهذا لم يعد ينفع بعدما فات الأوان! لكن العبرة والدرس لمن يتعظ، وأشدّ من هم بحاجة الى هذه العبرة والدروس، الحكام العرب، بعد أن شهد العالم العربي، سقوط العديد من الكبوش الواحد تلو الآخر، على يد من ارتموا في أحضان الدولة العظمى التي سحقت دولاً، وأنظمة، وحكاماً، وهي تلوّح لشعوب العالم، بشعارات الحرية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان!

متى سيتعظ الحكام في هذا العالم الذين يعوّلون على الدول الكبرى، ويرهنون مصيرهم، ومصير شعوبهم، وهم يرمون حملهم وثقلهم عليها، ويشطحون في خطواتهم المتهوّرة غير المحسوبة، ليجدوا أنفسهم في ما بعد مثل زيلينسكي، تائهين وسط محيط هائج، لا يصمد فيه إلا الحيتان الكبيرة وأشكالها.

 فهل مَن يأخذ العبرة في العالم العربي، من الذي يجري في أوكرانيا، حتى لا يشهد مأساة كالتي يشهدها زيلينسكي وشعبه، بعدما انتقل به من جو الكوميديا الى حالة التراجيديا…؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى