مقالات وآراء

قراءة في تفاعلات المشهد الداخلي الأميركي بشأن أوكرانيا

} د. منذر سليمان وجعفر الجعفري

  في البدء، آثرت واشنطن نهج الترقّب والانتظار، والتظاهر بتفضيل الخيار الديبلوماسي “طالما أنّ الدبابات الروسية لم تتحرك بعد” داخل إقليم الدونباس، عقب اعتراف الرئيس الروسي باستقلال جمهوريتي الإقليم، دونيتسك ولوغانسك، وإرساله قوات عسكرية “لحفظ السلام”. تسارعت المخاوف الأميركية، وفي الخلفية إيقاع روسيا في حفرة تورّط عسكري طويل الأجل، وتصاعدت أيضاً تصريحات عالية النبرة تأمل غياب الرئيس الروسي عن المشهد وتسليم السلطة لطاقم جديد مغاير في التوجهات، وتعهّد واشنطن تقديم مساعدات عسكرية وغير عسكرية إلى أوكرانيا قيمتها 14 مليار دولار.

 وحافظت وسائل التحشيد الإعلامية على سردية “فشل روسيا في تحقيق أهدافها، وارتكاب الرئيس فلاديمير بوتين عدداً من الأخطاء الاستراتيجية البديهية، بأنّ الحرب ستكون سريعة وقواته ستلقى ترحيباً كمحرّرة، وباستطاعته فرض حكومة صديقة عند توقف القتال. وغرق الدب (الروسي) في المستنقع”.

والآن، تبلور الموقف الأميركي “الرسمي” مواكباً المطالب الروسية من أوكرانيا، حيث توصلت التغطية الإعلامية إلى صريح العبارة بأنّ “أوكرانيا جاهزة لتقديم تنازلات مؤلمة”، (نشرة “فورين بوليسي”، 30 آذار/ مارس 2022)، سبقه سلسلة مناشدات أقلية من قيادات الحزب الديموقراطي لحثّ الرئيس بايدن على “ضرورة إيجاد حل ديبلوماسي” (نشرة “ذي ديلي بيست”، 10 آذار/ مارس 2022)، فضلاً عن مذكرة وجهّها عدد من المنظمات المؤيدة للحزب الديموقراطي إلى الرئيس بايدن مؤخراً، تحثّه على تقديم “تنازلات ضرورية للمضيّ في المسار الديبلوماسي، خشية تصعيد الخيار النووي”.

من بين المواقف المندّدة بشأن معالجة البيت الأبيض للأزمة مع روسيا واللافتة، مطالبة بعض النخب الأميركية مراكز صنع القرار بإعادة النظر في جدوى استمرار حلف الناتو. وجاء في عنوان بارز “حرب روسيا في أوكرانيا أثبتت عدم الحاجة إلى وجود مكثّف لقوات عسكرية أميركية في أوروبا، وفرضت على مؤسّسة الأمن القومي الأميركي إعادة النظر في خطط الدفاع الأصلية” (يومية “شيكاغو تريبيون”، 29 آذار/ مارس 2022).

 توّج الرئيس بايدن مناشداته لدول حلف الناتو بدعم أوكرانيا، عقب معارضة بلاده إعلان حظر جوي عليها، بتصريح خلال زيارته بولندا، 25 آذار/ مارس الماضي، مبشّراً بنشر قوات أميركية في أوكرانيا، سرعان ما أثار ردود أفعال غاضبة، ما اضطر طاقم الأمن القومي الأميركي إلى إصدار “توضيحات” بأنّ القصد كان بشأن “المساعدة الأميركية في تدريب القوات الأوكرانية الموجودة في بولندا”.

 التناقض الأبرز “لخطيئة” بايدن أتى من قمة المؤسسة العسكرية الأميركية، على لسان القائد الأعلى لقوات “الناتو”، الجنرال تود والترز  (Tod Wolters)، في شهادته أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ، 29 آذار/ مارس 2022، نافياً ما قاله الرئيس بايدن: “لا أعتقد أننا نقوم حالياً بتدريب قوات عسكرية من أوكرانيا في بولندا”، مستدركاً بأن حلف “الناتو” يعكف على دراسة وتقييم “التكتيكات العسكرية الروسية” والاستفادة منها “لإعادة النظر في البنية العسكرية الدائمة الموجودة في القارة”.

توجّهات الحزب الجمهوري بشأن أوكرانيا شهدت مدّاً وجزراً متوازيين. في البداية، أيّد معظم قيادات الحزب تجميد الرئيس السابق دونالد ترامب المساعدات العسكرية الأميركية لأوكرانيا في عام 2019، على خلفية حسابات الصراعات الداخلية بين الحزبين، وبروز نجل الرئيس بايدن، بو بايدن، كعنوان للفساد كما وصفه الرئيس السابق.

والآن، اصطفّ أولئك بكل ثقلهم لدعم الرئيس بايدن، والمزايدة عليه: دعوة السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام إلى “تغييب” بوتين قتلاً، وتوفير مساعدات عسكرية وعينية جديدة، بلغت قيمتها المعلنة 2 مليار دولار، وتوافق ثنائي على استضافة “لاجئين أوكرانيين”. الأمر الذي تغيّر في المشهد السياسي الحزبي هو تأجيج نزعة العداء المتأصّلة بشأن روسيا، وبروز فرصة فريدة لمعسكر الحرب لزيادة الإنفاق العسكري من دون منازع. فالجهة المستفيدة من تخصيص الدعم الإضافي لأوكرانيا هي شركات الأسلحة بالدرجة الأولى.

في بُعد الصراع السياسي/ الانتخابي بين الحزبين، لا تزال نخبة قيادات الحزب الجمهوري مستمرة في هجومها للنيل من هفوات الرئيس بايدن، أحدثها كانت “غلطته القاتلة” بأنّ الرئيس الروسي “لا يمكنه البقاء في السلطة”، خلال قمة دول حلف الناتو في بولندا.

على الرغم من التأييد العارم لسياسة الرئيس بايدن، في تصدّيه لروسيا عسكرياً إلى “ما دون الاشتباك المباشر معها”، بنسبة مرتفعة في البداية، 62%، فإنّ الهمّ الأساسيّ لمعظم قطاعات الشعب الأميركي هو الحالة المتردّية للاقتصاد وارتفاع معدلات التضخم، وما رافقها من ارتفاع حادّ في وسائل الطاقة وأسعار الأغذية والأدوية والمرافق الأخرى.

أبرز استراتيجيّي الحزب الجمهوري المعتمدين، كارل روف، أشار إلى تدهور “شعبية” الرئيس بايدن من “56% يوم التنصيب إلى 36%” في الفترة الحالية. وأضاف: “كلّ غلطاته، وما رافقها من تعديل وتنصّل، أدّت إلى تقويض مكانته لدى الناخبين الأميركيين، واضطرار فريق البيت الأبيض إلى توضيح أقواله أسهم في تدنّي معدلات الثقة بكفاءته” (يومية “وول ستريت جورنال”، 31 آذار/ مارس 2022).

أضاف روف أنّ المتاعب التي ترافق تصريحات الرئيس المتعددة هي نتيجة مسار ثابت من “عدم انضباطه لعقود خلت، ولا تبشّر بنيّة تعديلها الآن. وينبغي الإقرار بتراجع فُرص تجديد ترشيحه لولاية رئاسية ثانية في العام 2024”.

اللافت في الرؤية للانتخابات الرئاسية المقبلة تقدّم الرئيس السابق دونالد ترامب على الرئيس جو بايدن، في استفتاء افتراضي، بنسبة 47% إلى 41%، معطوفاً عليها استفتاء أجرته شبكة “إيه بي سي” للتلفزة أشار إلى إعراب 80% من الأميركيين عن قلقهم من “سوء إدارة البيت الأبيض لأزمة عالمية قد تفضي إلى نزاع نووي”. نتيجة مقلقة دفعت بأحد المشرفين على نتائج الاستطلاع، بيل مك إنتروف، إلى الاستنتاج أنّ “الرئيس بايدن والحزب الديموقراطي مقبلان على نتائج انتخابية كارثية”.

 جوهر الصراع العالمي، بالنسبة إلى النخب السياسية والفكرية الأميركية، هو مستقبل النظام الدولي، كما أوضحته أسبوعية التيار الليبرالي، “ذي نيشن”، في عددها الأخير، وأنه حتماً سيكون مختلفاً عن “استقرار مخادع في العقود الأخيرة. حرب روسيا في أوكرانيا حطّمت النظام العالمي القديم”، محذّرةّ مرة تلو الأخرى من دور الصين في النظام العالمي والذي “لا يزال بعيداً عن الوضوح” (“ذي نيشن”، 31 آذار/ مارس 2022).

 النخب الفكرية النافذة في دوائر صنع القرار، عبر نشرتها “فورين أفيرز” المرموقة، توصّلت أيضاً إلى نتائج موازية، بعد ترويج طويل لـ “ردع الغازي، ورفع سقف كلفة أيّ عملية عسكرية، وإصدار تهديدات بالعقوبات الاقتصادية بالغالب”. وأضحى خطابها مبنياً على “عقد مساومة مع بوتين، لأنها أفضل خيار متوافر لأميركا”، من دون التخلي عن فرض عقوبات اقتصادية إلى أبعد الحدود. أما مسألة استراتيجية واشنطن المعتمدة لـ “تغيير النظم السياسية”، فقد أثبتت أنها “عادلة وفعّالة في البداية، بيد أنّ تجربة الولايات المتحدة في العراق وليبيا وأماكن أخرى تشير إلى أنها غير قادرة على بلوغ الأهداف المرجوّة” (“فورين أفيرز”، 30 آذار/ نيسان 2022).

 أما النخب الماليّة والمصرفيّة، فقد سبقت نظراءها في مراكز الأبحاث، بجزمها “موت دوامة العولمة”. إحدى كبريات شركات الصيرفة والاستثمارات، “بلاك روك”، والتي تملك صندوق احتياط يقدّر بـ 10 تريليونات دولار، حذّرت مساهمي المؤسسة، في رسالة صريحة، 24 آذار/ مارس 2022. وقال رئيس الشركة لاري فينك إنّ “الغزو الروسي لأوكرانيا أطاح بالعولمة كما نعرفها”، والحرب مثّلت “القشة التي قصمت ظهر العولمة، نتيجة للعقوبات الاقتصادية التي أسفرت عن عزل روسيا عن السوق العالمية”.

 تضاريس المشهد العالمي الوليد تنبئ ببروز تعدّد القطبية وإجماع النخب الأميركية على تراجع سيطرة الولايات المتحدة وهيمنتها، نتيجة تبلور اقتناعات قاسية تفيد بأنّ استمرار “الأحادية القطبية يستدعي مناخات لامتناهية من العنف، وتصعيداً مستمراً للّعب على حافة هاوية نووية”، واستناداً أيضاً إلى حقائق التاريخ البشري برمّته بأنّ سيطرة القطب الواحد لم يشهدها التاريخ مطلقاً، باستثناء “العقود الثلاثة الماضية”.

 مصير العالم ما بعد أوكرانيا أوضح معالمه المدير الأسبق لوكالة الاستخبارات المركزية، جون مكلاغلين، معلناً أنّ العالم سيشهد “تغيرّات زلزالية”، بعد عام من الآن، بحسب تقديره، على 3 ساحات، أبرزها: “تعاظم دور حلف الناتو تسليحياً وتعاضداً، وانتشاره على مزيد من رقعة الحدود الروسية عمّا ذي قبل الهجوم على أوكرانيا”.

 على صعيد دور الولايات المتحدة، يعتقد ماكلاغلين أن بلاده “ستفوز بمزيد من النفوذ مع بروز فرص جديدة لقيادة نفوذها وتفعيله،” وتضاؤل دور روسيا عالمياً، بخلاف ما رمت إليه “قيادة الرئيس بوتين قبل الحرب”.

الصين كانت الساحة الأخرى التي “تأخرت” عن اتخاذ قرارات مصيرية، وستواجه “عاماً من القرارات” الصعبة، تحدّد فيه استراتيجيتها الكونية، في ظلّ علاقة “تنافسية مع الولايات المتحدة على التفوّق العالمي” (نشرة “غريد – Grid” للصحافة النخبوية، 1 نيسان/ إبريل 2022).

 التعويل الأميركي المتفائل بشأن سياسة الخنق الاقتصادي والمالي لروسيا يبقى محطّ تكهنات غير واقعية، في ظل الإجراءات الروسية المضادة، التي أوقفت تدهور عملتها، وفي تنصّل العديد من حلفاء أميركا وخصومها من الانجرار وراء عزم واشنطن على عزل روسيا…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى