أولى

انتخابات لبنان للتعبير لا للتغيير…

د. عصام نعمان*

الانتخابات في لبنان ظاهرة تاريخية. لا غلوّ في هذا التوصيف. كل ما يجري فيها تاريخي من حيث انه قديم وجديد، مألوف وغير مسبوق، تقليدي وثوري، صناعة محلية وأجنبية، ثابت ومتحوّل. هو كل هذه المتناقضات في آن معاً. ليس غريباً، والحال هذه، توصيف لبنان بأنه بلد الغرائب والعجائب.

كلّ الأطراف المتصارعة والمتنافسة في ساحاته، أفراداً وجماعات، داخلية وخارجية، تصرّفت خلال السنتين الماضيتين على نحوٍ بدت الصراعات بينها وكأنها قدر مقدور، لكنه مفتوح ايضاً على ظاهرات ومفاجآت نقيضة. حتى قبل ايام معدودة، كان ثمة شكوك في ان تجري الانتخابات في موعدها المقرر. لكن الشكوك انحسرت قليلاً وأتاحت الظروف المتغيّرة للسلطات القائمة، رغم قصورها وتنافرها، أن تطلق سباقاً بين الأطراف المتصارعة نحو… المجهول.

المجهول؟ نعم، المجهول لأنّ أحداً في الداخل والخارج ليس بمقدوره أن يجزم كيف ستكون عليه حال لبنان بعـد ان تضع الانتخابات أوزارهـا. لماذا؟

لأنّ اللاعبين المتصارعين والمتنافسين في ملعب صغير متعدد الساحات، كثر ومتشاكسون ومتشابكون في الغايات والأهواء والمصالح والمسالك. مع ذلك يمكن، بصعوبة بالغة، تصنيفهم في ثلاث فئات:

الأولى هي الأشدّ عداء وكراهية للغرب عموماً وللكيان الصهيوني خصوصاً، والأصرح التزاماً بمقاومة هذين العدوين بالسلاح والسياسة والإقتصاد.

الثانية هي الأشد التصاقاً بالنظام السياسي الإقتصادي الإجتماعي الطوائفي القائم، والأكثر استعداداً للدفاع عنه بما هو، في رأيها، الضمانة الرئيسة لهوية لبنان.

الثالثة هي الأكثر شباباً والأقل تعاطياً مع النظام الطوائفي القائم، والأسرع إستعداداً للإعتقاد وبالتالي الإنخراط في الدعوة الى إقصاء المنظومة الحاكمة بما هو العلاج الأفعل للأزمة الراهنة.

دولُ الغرب الأطلسي عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً، تعادي وتحارب وتفرض عقوبات اقتصادية قاسية على قيادات ومؤسسات الفئة الاولى التي يمكن اختصارها بتسمية «حزب الله وحلفائه»، في حين ان روسيا وايران، والصين بشكل محدود، تدعمه سياسياً واقتصادياً وعسكرياً (بالأسلحة والذخائر والخبرة والتدريب).

أطرافُ الفئة الثانية حليفة قديمة جديدة لدول الغرب الأطلسي ولا تخفي تلقيها مختلف انواع الدعم منه، كما تجاهر بإنحيازها الى حلفاء الغرب من دول الخليج وغيرها من دول العالم.

أطرافُ الفئة الثالثة التي يمكن اختصارها بتسمية «دعاة التغيير من خلال المجتمع المدني» ليست معادية لدول الغرب بل ربما يدور معظمها سياسياً وثقافياً في فلكها، تميّزت بعد انطلاقها بإنتفاضة 17 تشرين الاول /اكتوبر 2019 بثلاثة امور لافتة: عجزها عن التوافق على برنامج موحد للإصلاح والتغيير، وعجزها تالياً عن التوحد في تكتل او تكتلات سياسية متماسكة لخوض الانتخابات، وتسارع انزلاق معظم اطرافها الى استعداء حزب الله والمطالبة بنزع سلاح المقاومة واتهامه تالياً بأنه يحمي منظومة الفساد المتحكّمة.

عشية الانتخابات حدث أمران، أضرّ أولهما بحقوق لبنان السيادية (النفط والغاز) في مياهه الإقليمية، وأحرج ثانيهما مختلف أطراف الفئة الثانية من حلفاء الغرب عموماً واميركا خصوصاً، كما أربك اطراف الفئة الثالثة من دعاة التغيير من خلال المجتمع المدني:

الحدثُ الاول: إعلان شركة يونانية متعاقدة مع «اسرائيل» على التنقيب عن النفط والغاز في منطقة متنازع عليها على الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة، أن سفينةً جرى استقدامها من سنغافورة للمباشرة في استخراج النفط تمهيداً لبيعه واستثمار عائداته، وذلك في وقتٍ لا تكتفي الولايات المتحدة بالانحياز الى جانب «إسرائيل» في المفاوضات التي جرت برعاية الامم المتحدة لترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة بل تمنّعت، بعدما وعدت، عن رفع الحظر الذي فرضته بموجب «قانون قيصر» على سورية الامر الذي حال دون تنفيذ استجرار الغاز من مصر والكهرباء من الاردن الى لبنان عبر الأراضي السورية.

الحدثُ الثاني، حقائق ادلى بها ديفيد شينكر المساعد السابق لوزير الخارجية الاميركي لشؤون الشرق الأدنى، العائد الى «معهد واشنطن لسياسات الشرق الادنى» في ندوة عقدها يوم الجمعة الماضي عبر تطبيق Zoom تحت عنوان «ديناميات حزب الله والشيعة وانتخابات لبنان: التحديات والفرص والتداعيات السياسية». شينكر كشف، بالصوت والصورة، عن دور ادارة الرئيس ترامب في تسريع حصول الانهيار المالي في لبنان، وعن تفاصيل مشروع الاستثمار في «المجتمع المدني» لا سيما خلال الانتخابات البلدية سنة 2016، وعن الاستثمار بخلق «قوى بديلة» وزرع رجال أعمال شيعة معارضين لحزب الله، وعن فرص اقتصادية للمناطق الشيعية بغية إضعاف اعتماد هذه المناطق على حزب الله». غير ان أبلغ ما كشفه شينكر قوله: «لا ارى ان الانتخابات ستغيّر الوضع بشكل دراماتيكي […] لأن المعارضة منقسمة بشكل مريع وتغصّ بالقادة النرجسيين والشخصانيين المهتمين اكثر بأن يتزعموا احزابهم بدلاً من ان يتوحدوا للإطاحة بالنخبة الفاسدة […] وسيأكلون بعضهم بعضاً ولن يربحوا ما يكفي من المقاعد لإحداث تحوّل في التوازن […] ولا اعتقد بأن على الادارة الاميركية ان تراهن على هذه الانتخابات «.

ما كشفه شينكر يطرح أسئلة ملحاحة: لماذا جرى عقد الندوة قبل يومين من الانتخابات؟ وهل لإدارة الرئيس بايدن علاقة بذلك؟ وهل ما كشفه شينكر تمّ بالتفاهم معها؟ وهل ان المقصود إحداث اضطراب سياسي وأمني يؤدي الى تعطيل الانتخابات؟

ايّاً ما كان الأمر فإنّ ملابسات الانتخابات، قبل ما كشفه شينكر وبعده، تؤكد حقيقة بازغة أن انتخابات لبنان هي للتعبير فقط وليس للتغيير…

_ نائب ووزير سابق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى