أولى

الشرارة من جنين…

 سعادة مصطفى أرشيد*

تشير التوقعات إلى أنّ شرارة ستنطلق من جنين، وأنّ معركة يتمّ الإعداد لها، فجولة القتال الأخيرة والتي انطلقت قبيل رمضان على شكل عمليات إطلاق نار وطعن، واستمرّت في رمضان وأضيف إليها الاشتباك على مدار الساعة طيلة شهر الصيام في المسجد الأقصى، مما ترك انطباعاً لدى (الإسرائيلي)، انّ مجموعة من المعارك تجري في وقت واحد تديرها غزة بشكل مباشر أو غير مباشر عبر التعبئة النفسية، منها ما تشارك به الألوف المؤلفة كما في الأقصى ومنها ما تفعله العمليات المنفردة في بني براك وغيرها ومنها ما يجري من اشتباك في مخيم جنين والقرى المجاورة، ومنها حالة الكرّ والفرّ المباشرة مع غزة مباشرة.

‎في الأسبوع الماضي قتل الجيش (الإسرائيلي) الشهيدة شيرين أبو عاقلة، وتشير ظروف الحادث إلى أنّ الأمر خطط له من مستويات أعلى من ضابط الوحدة والعسكري الذي أطلق النار، فقد أراد متخذ القرار إيصال رسالتين: الأولى لجمهوره المتطرف والذي يطالب باغتيال السنوار إثر عملية البلطة الأخيرة فيما ترى الحكومة أنها وإن استطاعت قتله إلا أن النتائج ستكون فوق قدرتها على الاحتمال، وهي بقتل شخصية عامة بوزن الشهيدة شيرين أبو عاقلة تكون قد منحت جمهورها بعض ما يشفي غليله، ومن جانب آخر خطّطت لتحميل مسؤولية استشهادها للمقاومة، لتدّعي أنّ المجموعات المقاومة ما هي إلا خطر لا على (إسرائيل) فحسب، وإنما على أهلهم وشعبهم، وهو أمر ثبت تهافته وعاد عليها بالخسارة وبمزيد من فقدان السيطرة في القدس كما بدا واضحاً في الجنازة التي حاولت الشرطة قمعها والاعتداء على المشيّعين وحتى على التابوت المحمول. والرسالة الثانية فهي للمقاومة بأنّ الاجتياح المقبل للمخيّم لن يكون به ضوابط ومحرّمات وسيكون بالغ الدموية بدليل أن لا حصانة لشخصية من وزن الشهيدة، ثم انّ في هذه الاجتياحات اليومية فحصاً لقدرات المقاومة واستكشافاً لمستجدّاتها.

‎في يوم استشهاد شيرين جرح معها زميلها الصحافي علي سمودي وآخرون منهم داوود الزبيدي الذي أصيب إصابة بالغة، وهذا هو شقيق زكريا الزبيدي الذي يمثل حالة رمزية نضالية لا في مخيم جنين فحسب، وإنما في أوساط المقاومة عموماً، فقد كان أحد قادة الكفاح في مخيم جنين على مدى عقدين من الزمن، ودفع أثماناً شخصية باهظة من اعتقال ومطاردة وفقدان الأهل والأحبة الذين قضوا شهداء ومنهم والدته وشقيقه الأكبر اللذان استشهدا في معركة مخيم جنين عام 2002، حصل على الشهادة الثانوية في السجن، انتسب للجامعة حيث حصل على شهادتي البكالوريوس والماجستير، كان موضوع رسالة الماجستير عن تجربته النضاليّة وظروف الكفاح والمطاردة والتخفّي، التي أصبحت دليلاً يقرأه جيل الشباب المقاوم اليوم، في مرحلة تسلم الجنرال الأميركي دايتون ملف الأمن، تمّ العفو عن مجموعات المطاردين والزبيدي منهم، ولكن (إسرائيل) عاودت اعتقاله، استطاع ثقب أرض السجن والهروب مع أربعة من زملائه الأسرى في عمليه نفق الحرية الشهيرة، أخوه داوود سار على نهجه وعقب إصابته تنقل بين عدة مستشفيات لينتهي به الأمر في مستشفى حمزة في حيفا (رامبام بالعبرية وهو الاسم الذي تغيّر إثر النكبة) حيث أعلن الاحتلال أنه جريح ومعتقل، وهناك حاول عضو الكنيست المتطرف بن غفير اقتحام غرفته لقتله (حسب ما صرّح) ولكن أمن المستشفى حال دون ذلك (حسب ادّعاء إدارة المستشفى)، ولكن ما هي إلا ساعات وأعلن عن استشهاده، مما فجر حالة استثنائيّة من الغضب الشعبي وفي أوساط المقاومين جعلت من مخيم جنين وجواره خارج السيطرة.

‎التوتر يتضاعف في مخيم جنين، وفي اشتباك جرى منذ أيام قتلت المقاومة ضابطاً من جيش الاحتلال، فيما تحدّث الضباط والجنود بذهول عما واجهوه من مقاومة اتسمت بالكثافة والشجاعة، وهو ما بدا في المسيرات التي أعقبت الإعلان عن استشهاد الزبيدي حيث طاف الآلاف شوارع المدينة والمخيم وبينهم أعداد من المسلحين غير الاستعراضيين الذين عرفتهم المدينة سابقاً، وحسب مصادر الاحتلال إثر ما شهدوه فإنّ المعركة القادمة قد تشارك بها مروحيات الأباتشي وتستعمل بها وسائل أخرى لا يريدون الكشف عنها.

‎في التقدير تبدو أهداف (إسرائيل) هي في ضرب الواقع المقاتل في جنين ومخيمها وقراها والقضاء على أية قوة معارضة خاصة إنْ كانت مسلحة وجاهزة للاشتباك كما هو الحال، وتريد منع غزة من نقل المعركة للضفة وأخيراً تريد الظهور أمام جمهورها بمظهر القويّ الحازم القادر على سفك الدماء، فيما تترنح الحكومة أمام مشاكلها الداخلية واضطرارها لترطيب الأجواء إثر استشهاد شيرين والاستعداد لزيارة بايدن في الثلث الأخير من حزيران المقبل، حيث سيطلب وضع شيء من الضوابط أمام الاستيطان، وسيزور القدس الشرقية ومستشفى المقاصد حسب ما يُشاع، وثمة حديث عن إعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس الشرقيّة التي قام الرئيس السابق بنقلها إلى القدس الغربية.

‎من جنين ومخيمها ستنطلق شرارة تعمل على تغيير كبير نتائجها في عالم الغيب، ولكن الأكيد أنّ ما بعدها لن يكون كما قبلها…

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*سياسيّ فلسطينيّ مقيم في الكفير ـ جنين ـ فلسطين المحتلة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى