أولى

ماذا ينتظر لبنان بعد الانتخابات النيابيّة؟

 العميد د. أمين محمد حطيط*

تحلّ الذكرى الـ ٢٢ لنصر لبنان بتحرير أرضه من براثن العدو «الإسرائيلي»، تحلّ الذكرى متزامنة مع نصر المقاومة في الانتخابات النيابيّة في لبنان تلك الانتخابات التي انقلبت من طبيعتها السياسية العادية لتشكل وجهاً من وجوه الصراع بين مشروعين، ومعركة قاسية تخاض في إطار حرب تشنّ على المنطقة لاستعمارها ونهب خيراتها.

لقد انتصر لبنان في حرب تحرير الأرض في العام ٢٠٠٠ وأُجبر المحتلّ «الإسرائيلي» على الخروج من معظم الأرض المحتلة في جنوب لبنان، ذاك الاحتلال الذي بدأ في العام ١٩٧٨ وتوسّع في العام ١٩٨٢ وفرض على لبنان اتفاقية إذعان في ١٧ أيار ١٩٨٣ انتهكت مضامينها السيادة اللبنانية التي تنازل لبنان عنها في الجنوب بضغط وإملاء أميركي، أدّى الى قبول الحكومة اللبنانية بمنح «إسرائيل» حق الهيمنة والسيطرة على الجنوب اللبناني حتى نهر الليطاني وأعطاها حق التدقيق بالقوى العسكرية اللبنانية من جيش وقوى أمنية أخرى لتوافق أو ترفض وجودها في تلك المنطقة، في انتهاك فاضح لسيادة الدولة على إقليمها.

بيد أنّ الوطنيين اللبنانيين لم يرتضوا بما تنازلت عنه حكومتهم ورفضوا الاحتلال كما رفضوا إعطاء المحتلّ أيّ مكسب أو حق داخل لبنان وعملوا على خطين متساندين خط مقاومة مدنية وسياسية وخط مقاومة ميدانية عسكرية. خطان يستندان الى الشرائح الوطنية والسيادية الحقيقية من الشعب اللبناني، وقد نجح الخطان في مواجهتهما للاحتلال بوجوهه التي تبدّت يومها فأسقطت اتفاقية ١٧ أيار أولاً ثم دفع العدو المحتلّ عن مساحات شاسعة من الأرض المحتلة، ثانياً وأخيراً وفي أيار العام ٢٠٠٠ استكمل تحرير معظم ما تبقى من أرض محتلة، وسجل الوطنيون اللبنانيون بمقاومتهم المدنية والسياسية والعسكرية الميدانية انتصاراً هاماً على العدو تمثل بإخراجه دون قيد أو شرط من لبنان. وأكد لبنان بمقاومته انه فعلاً قويّ وأنّ الضعف لا يمكن أن يكون قوة كما كان يدّعي بعض قادة اليمين اللبناني المتعامل مع «إسرائيل».

واليوم يشتدّ الجدل حول المقاومة وسلاحها، وتخاض الانتخابات النيابية تحت شعار أساسي شبه وحيد هو وجود المقاومة وشرعية امتلاكها السلاح، شعار اعتمد في الانتخابات فغير من طبيعتها وجعلها كما ذكرنا معركة في إطار حرب، وانقسم اللبنانيون عمودياً حول هذا الشعار واستعمل الفريق المناهض للمقاومة كلّ أنواع الأسلحة في المعركة من مشروعة وغير مشروعة ولم يوفر أداة يمكن ان يتكئ عليها إلا وزجّها في الميدان سواء في ذلك المال او الإعلام او الضغط المعيشي او التهديد والضغوط السياسية، لكنه فشل في نهاية المطاف في تحقيق الانتصار الذي يبتغيه وفشل في الحصول على أكثرية تمكنه من التحكم بمجلس النواب وقراره أو تمكنه من تشكيل حكومة ميثاقية تنال ثقة مجلس النواب او المجيء برئيس جمهورية يستجيب لمطالب المعسكر الاستعماريّ الذي يستهدف القوى الوطنية ومقاومتها وبيئة هذه المقاومة. أما المقاومة فإنها ورغم عدم حصولها على الأكثرية التي تمكنها من الحكم منفردة، فإنها حصلت على حجم نيابي يمنع تجاوزها أو استفرادها.

هذه النتيجة رسمت مشهداً لبنانياً داخلياً يفرض على المعنيين بالشأن أن يختاروا لمستقبل لبنان بين حلّ توافقي وطني جامع يشارك فيه الجميع بورشة إنقاذ لبنان ومواجهة الصعوبات والتحديات التي تهدّده، عبر تشكيل حكومة وفاق وطني واختيار رئيس جمهورية على مسافة واحدة من الجميع، أو الذهاب الى الحلّ الآخر المتمثل بإبقاء البلاد بدون حكومة لأنّ فريق المقاومة لا يتطلع الى الحكم منفرداً وخصوم المقاومة الرافضين للشراكة في الحكم عاجزون عن الحكم منفردين وفقاً لتركيبة مجلس النواب الحالي وتكون النتيجة شللاً سياسياً واستمرار حكومة تصريف الأعمال في مواقعها مغلولة اليدين دستورياً لفترة أدناها نهاية ولاية رئيس الجمهورية الحالي.

فإذا حلّ أجل انتهاء ولاية الرئيس ولم يكن هناك حكومة مكتملة الصلاحيات وعجز هذا المجلس عن انتخاب رئيس جمهورية جديد فإنّ السؤال الكبير الذي لا بدّ من طرحه يدور حول مصير السلطة التنفيذية عند ذلك؟ ونعود ونؤكد أنّ من يفشل في تشكيل حكومة تستجيب لمقتضيات الدستور والميثاق سيكون أشدّ عجزاً عن انتخاب رئيس جمهورية. من هنا يكون ملحاً ومشروعاً التساؤل أعلاه، ونكرّر السؤال مَن سيحكم لبنان ويواجه العواصف العاتية التي تضربه وتدفعه الى الانهيار؟

لقد أناط الدستور اللبناني في حال خلوّ سدة رئاسة الجمهورية صلاحيات الرئيس بالحكومة مجتمعة، تمارسها في إطار مجلس الوزراء، وأكد الدستور على انّ الحكومة المعتبرة مستقيلة لا تمارس الحكم إلا في الإطار الضيّق لتصريف الأعمال. وهنا يرى البعض انّ ممارسة صلاحيات الرئاسة تتعدّى هذا الإطار الضيق، ما يجعلنا نستنتج انّ رئيس الجمهورية سيكون في حال عدم انتخاب البديل وعدم تشكيل الحكومة أمام خيارين… إما الامتثال للنص الحرفي ومغادرة كرسي الرئاسة عند انتهاء مدة الولاية الرئاسية ما يعني انه يفتح باب الفراغ في السلطة وهدم ركن من أركان الدولة وهو أمر خطر، او العمل بنظرية الظروف الاستثنائية وان الضرورات تبيح المحظورات وضرورة استمرارية المرفق العام ما يعني وجوب البقاء في الموقع الرئاسي حتى وجود البديل الدستوري مع ما يستتبع ذلك من رفض فئة من اللبنانيين واحتمال المواجهة في الساحات؟!

مع هذه الاحتمالات نعود ونشدّد على أنّ الحلّ الأفضل هو التوافق على إعادة تشكيل السلطة إثر الانتخابات وان يسلم كلّ فريق بالنتائج وينظر بموضوعيّة الى حجمه الطبيعي وإذا كانت المقاومة وحلفاؤها أبديا تفهّماً للواقع وأكدا استعدادهما للشراكة مع الآخر ولم يُضِرهما أنهما لم يحصلا على الأكثرية المطلقة من مجلس النواب التي تمكنهم من الحكم منفردين، فيكون على الفريق الآخر ان ينظر الى الأمر بموضوعية أيضاً ويرتضي بالنتائج ويسلم بالواقع دون استعراض وعنتريات فارغة، وإذا كان بعض مكونات ذاك الفريق اشتهر بإنتاج الخلافات والاستثمار بها كما هو تاريخه فعلى الواعين من الآخرين أن لا يجاروه في رهاناته ومغامراته التي اشتهر بخساراته فيها.

أما المقاومة التي انتصرت وبتفوّق عال في معركة الوجود عبر صناديق الاقتراع، فإنها تدرك أنّ المواجهة لم تنته بعد والمخاطر التي تتهدّدها والوطن ليست من المسائل الطفيفة العابرة، لذلك تبدي كلّ الحذر مع الاستعداد لأيّ طارئ بدءاً من اليوم مع بدء ولاية المجلس الجديد، وهي تتذكر انّ خطة بومبيو الأميركي التي وضعت لإسقاط لبنان لا تزال قيد التنفيذ منذ آذار ٢٠١٩ خاصة أنّ في ركنها الرابع بعد الفوضى والفراغ السياسي والانهيار الاقتصادي والنقدي هناك الانهيار الأمني، ما يفرض على المقاومة وبيئتها السعي الى إنتاج بيئة وطنيّة تقفل الباب أمام خطر هذا الانهيار.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أستاذ جامعيّ ـ باحث استراتيجيّ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى