أولى

أزمة الترسيم البحري جنوباً: حرب أم حلّ سياسيّ؟

 العميد د. أمين محمد حطيط*

كما ذكرنا مراراً يؤكد الإعلام الأجنبي انّ التعامل اللبناني مع ملف ترسيم الحدود البحرية خاصة في قسمها الجنوبي لم يكن في المستوى الذي يدخل المعنيين بالشأن في حال من الطمأنينة والثقة بأنّ الحقّ اللبناني مصون بكليته وأنه لن يُمسّ ولن يكون عرضة لانتهاك او اعتداء، ولكن ورغم انه حصل ما حصل من أخطاء فإننا وصلنا اليوم الى مرحلة تستوجب العمل بجدية وحزم أكبر في الأيام التي تسبق إمكانية إقدام العدو على فرض الأمر الواقع على لبنان والبدء باستخراج الثروة النفطية من حقل يبدو أنه واقع في منطقة متنازع عليها بين لبنان وفلسطين المحتلة من قبل «إسرائيل».

لقد تسبّبت الأخطاء اللبنانية في تداول هذا الملف بإنتاج ثلاثة خطوط للحدود الجنوبية للمنطقة الاقتصادية الخالصة، بدءاً بالخط (١) الذي رسم خطأ في معرض اتفاق مع قبرص وتبيّن أنه لا يستجيب لمقتضيات العلم والقانون خاصة أنه لا ينطلق من البرّ كما يفرض قانون البحار، ثم مروراً بالخط (٢٣) الذي اعتمده لبنان خطاً رسمياً لحدوده وبات بعد صدور المرسوم ٦٤٣٣ الذي أكد عليه، بات هو الخط اللبناني الرسمي المودع لدى الأمم المتحدة، وهو أيّ الخط ٢٣ خط غير قانوني صنعته «إسرائيل» من أجل حماية حقل كاريش وأغرت لبنان به فاعتمده من غير سند قانوني او تبرير علمي او تقني خاصة أنه لا يصل الى أو لا ينطلق من اليابسة كما تفرض القواعد القانونية، وصولاً الى الخط ٢٩ الذي طرحه الوفد اللبناني على طاولة التفاوض في الناقورة والذي اعتمدت في رسمه كافة القواعد القانونية والأحكام القضائية الدولية الصادرة في الحالات المماثلة.

وبالتالي تكون الحدود البحرية اللبنانية في الجنوب مشتتة من الوجهة اللبنانية بين خطوط ثلاثة خط خاطئ مهمل هو الخط (١) يقتطع من المساحة التي يطالب بها لبنان جنوباً مساحة ٢٢٩٠ كلم٢ وخط رسمي معتمد بالمرسوم ٦٤٣٣ هو الخط (٢٣) يقتطع من حقوق لبنان مساحة ١٤٣٠ كلم٢ ويستعيد ٨٦٠ كلم٢ وأخيراً خط تفاوضي هو ما طرحه الوفد اللبناني في الناقورة وهو الخط ٢٩.

بيد أنه بالعودة الى قواعد رسم الحدود في القانون الدولي نقف على القاعدة التي تنص على انّ حدود الدول ترسمها الدول ذات العلاقة وتودعها الأمم المتحدة لتصبح حدوداً دولية معترفاً بها ولذلك تجري المفاوضات لحصول اتفاق. وهنا وفي غياب الاتفاق بين لبنان والعدو فإن أيّاً من الخطوط الثلاثة لا يرتقي الى مصاف الخط الاتفاقي ولا يُعتبر حدوداً معترفاً بها دولياً، وفي ظلّ غياب الاتفاق يمكن للدول ان تحدّد بإرادة منفردة حدودها فإذا تطابقت المواقف انقلب التطابق الى اتفاق ضمني غير مباشر، كما لو اعتمد مثلاً مجرى النهر حدوداً من قبل الطرفين ومن غير تفاوض او اتفاق، اما اذا لم يحصل التوافق فانّ المنطقة الواقعة بين الخطين المعتمدين بالإرادة المنفردة تصبح منطقة متنازع عليها يمتنع على أيّ من الطرفين العمل بها قبل فض النزاع.

وبما انّ العدو «الإسرائيلي» يتمسك بالخط ١، وانّ لبنان لديه خطين ٢٣ و٢٩ فإنّ هناك منطقتي نزاع الأولى ومساحتها ٨٦٠ كلم٢ وهي منطقة النزاع الرسمية نظراً لوجود المرسوم ٦٤٣٣ الذي ينص على الخط ٢٣ أما الثانية فهي الناشئة نتيجة التفاوض والمؤكد عليها برسالة لبنان الى الأمم المتحدة والمعممة بتاريخ ٢\٢\٢٠٢٢، لكن ضبابية ما نشأت حول هذه المنطقة اثر الجولات المكوكية للوسيط الأميركي هوكشتاين معطوفة على إحجام لبنان عن تعديل المرسوم ٦٤٣٣ ليوحّد الخطوط ويسقط الخط ٢٣ ويبقي على الخط ٢٩ ليجعله الخط الرسمي الوحيد والخط التفاوضي الصحيح والأكيد.

استغلت «إسرائيل» هذين التذبذب والضبابية في الموقف اللبناني واستقدمت باخرة شفط وانتاج الى حقل كاريش بعد ان كانت أوقفت المفاوضات وامتنعت عن الوصول الى حلّ اتفاقي لترسيم الحدود عبر مفاوضات غير مباشرة بوساطة أميركية. وكان استقدام هذه الباخرة التي دخلت حقل كاريش من زاويته الجنوبية جنوبي الخط ٢٩ بمثابة استفزاز وجسّ نبض للبنان وبمثابة طرح السؤال على المعنيين في لبنان.. ماذا أنتم فاعلون؟

صحيح أنّ الباخرة لم تتجاوز الخط ٢٩ ولم تدخل كما هو مسجل من قبل المراقبات البحرية، لم تتجاوز الى المنطقة المتنازع عليها رسمياً او تفاوضياً، لكن الصحيح أيضاً انّ الباخرة ستعمل في حقل يقع ٥٥٪ منه في المنطقة المتنازع عليه تفاوضياً والمسماة صراحة في رسالة لبنان الى الأمم المتحدة، وبالتالي يُعتبر عملها انتهاكاً لحقوق لبنان في منطقة متنازع عليها ما يعطي لبنان الحق بالتحرك والمواجهة. وهنا يأتي السؤال الثاني مَن وكيف يكون التحرّك؟

انّ السبل المفتوحة أمام لبنان للتحرك صيانة لحقوقه متعددة تبدأ بالسياسة والدبلوماسية وتنتهي بالمواجهة في الميدان ولبنان يملك في كلّ ذلك أكثر من مصدر من مصادر القوة وعليه يمكن أن يتدرج الرد اللبناني وفقاً لما يلي:

ـ إعلام كل مَن يعنيه الأمر أممياً ودولياً وإقليمياً وشركات بترول، بتمسك لبنان بالرسالة الموجهة الى الأمم المتحدة والمعمّمة بتاريخ ٢\٢\٢٠٢٢ والتي تعتبر كامل المنطقة بين الخطين ١ و٢٩ منطقة متنازع عليها شاملة في ذلك كامل حقل كاريش الذي يقطعه الخط ٢٩ في وسطه تقريباً. ورفض لبنان أيّ عمل تقوم به الباخرة انيرجي باوير في حقل كاريش، وطلب وقفه.

ـ استئناف المفاوضات غير المباشرة دون حصر الذات بخطوط ومناطق وأرقام وتسميات والانطلاق من المرجعيات القانونية لتحديد الحدود البحرية وهي في حالاتنا قانون البحار واتفاقية «بوليه نيوكمب» واتفاقية الهدنة واحكام القضاء الدولي.

ـ في حال لم تستجب «إسرائيل» ولم توقف العمل يكون على لبنان المبادرة فوراً الى تعديل المرسوم ٦٤٣٣ واعتبار الخط ٢٩ وبإرادة منفردة هو حدوده الدولية البحرية جنوباً واعتبار أي مسّ به عدواناً.

ـ إذا واصلت «إسرائيل» العمل في المنطقة شمال الخط ٢٩ او في الحقل الممتدّ شمال الخط (كاريش) بعد تعديل المرسوم يكون فعلها عدواناً يستوجب الردّ. وهنا يكون من حق المقاومة الى جانب الجيش اللبناني أن تتصرف وتتحرك وفقاً لواجبها الجهادي وتمنع العدوان.

نطرح هذا الأمر بالشكل المتقدّم مع التأكيد على مسائل يجب ان يأخذها لبنان في الاعتبار عند أي تحرك او قرار متصل بهذا الموضوع ومن هذه المسائل:

ـ الوضع «الإسرائيلي» المترهّل وعدم جهوزية «إسرائيل» للحرب والمواجهة خاصة بعد محدودية النجاح في مناورات مركبات النار والتي قيل إن مرحلتين منها فشلتا من أصل ٤ مراحل، ومع هذا الواقع لن تكون «إسرائيل» معنية بحرب تسعى اليها جدياً في شمالها بل قد تستعرض عضلاتها فقط للابتزاز.

ـ التزام المقاومة التي تملك قوة عسكرية تخطت كلّ السقوف التي بلغتها خلال الـ ٤٠ سنة من تاريخها، بالدفاع عن حقوق لبنان عندما تحدد الدولة ان هذه الحقوق تتعرض لانتهاك او عدوان.

ـ حاجة الإقليم ونظام الطاقة الدولي الى مزيد من الغاز والطاقة بعد العملية الروسية في أوكرانيا، وعدم استعداد المعنيين بالذهاب الى حرب تعقد بشكل أكبر حركة الإمداد بالطاقة دولياً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أستاذ جامعيّ ـ باحث استراتيجيّ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى