أولى

«تطمينات إسرائيل»وغموض المواقف في لبنان!

 د. عدنان منصور _

أن يصدر بيان عن وزراء الطاقة والدفاع والخارجية الإسرائيليين، يؤكدون فيه على حرص حكومة الكيان على المسار التفاوضيّ، وتسريع العودة الى المفاوضات، والتأكيد على أنّ سفينة استخراج الغاز لم تدخل المناطق المتنازع عليها، هو بمثابة ذرّ الرماد في العيون.

 هناك في لبنان، من تلقف بحماس فحوى البيان المخادع، بصورة اعتبرها تراجعاً «إسرائيلياً» خوفاً من ردود فعل المقاومة، وتجنب العدو مواجهة عسكرية معها، هو بغنى عنها، نظراً للتداعيات الخطيرة والخسائر التي قد تلحق به.

 كلام المسؤولين الإسرائيليين يجب أن لا يؤخذ به، وأن لا ينطلي على أصحاب القرار في لبنان، ولا على الشعب اللبناني المعني الاول بثرواته، والمتابعين لملف المنطقة الاقتصادية الحصرية العائدة الى لبنان. (حبّذا لو يستخدم مصطلح الحصرية ولا الخالصة لخطأ في التعريب جاء في الاتفاقية الموقعة مع قبرص تاريخ 17 كانون الثاني 2007، Economic Exclusive Zone  ولا يزال استخدام مصطلح «الخالصة» خطأ مستمراً حتى اليوم).

 قد يعتقد العديد في لبنان أنّ «اسرائيل» تراجعت وأعطت ضمانات للمسؤولين اللبنانيين، وأن تراجعها مردّه الى ما قد تقدم عليه المقاومة كردّ فعل عنيف على استغلال العدو لثروات لبنان. من هنا رأى البعض من المتابعين لتطورات الأحداث المتعلقة بالمنطقة الاقتصادية الحصرية، خلافاً للواقع، من ان لبنان سجل أهدافاً في المرمى «الإسرائيلي»!

 صحيح أنّ باخرة التنقيب لا تزال جنوب الخط 29 الذي يمر في حقل كاريش، وصحيح أنّ «إسرائيل» لم تتجاوز حتى الآن هذا الخط شمالاً، باتجاه الخط 23، ومنه الى الخط 1، لكن حقل كاريش حقل مشترك بين لبنان والكيان الإسرائيلي.

 لبنان لا يدّعي أحقيته على الجزء الواقع جنوب الخط 29 من الحقل المذكور، حيث تقوم «اسرائيل» باستغلاله، وإنما يحرص على حقوقه في الجزء الشمالي من الحقل الواقع شمال الخط 29 وصولاً إلى الخط 23 والخط 1.

 من حق لبنان أن يعترض على قيام «إسرائيل» في استخراج الغاز من الجزء التابع لها، لطالما انها ترفض الإقرار بحق لبنان في الجزء الواقع شمالي الخط 29، وحقه في استغلال ثرواته، حيث تعتبره منطقة متنازعاً عليها. وهذا يعني أن حقل غاز كاريش المشترك، يصبح حكراً على «إسرائيل»، تستغله بالكامل، وتترك بعدها لبنان معلقاً بالمفاوضات المطاطة الى أجل غير مسمّى، يحظر عليه أثناءها التنقيب في كاريش او في أي نقطة من المناطق المتنازع عليها. فيما هي تستغل حقل الغاز بوتيرة متسارعة، غير عابئة بالقوانين الدولية ذات الصلة بالحقول البترولية والغازية المشتركة بين الدول، فيما لبنان لا يزال في بداية الطريق، يتأهب للانطلاق، ولا يعرف متى وكيف، وفي أي اتجاه يسير.

 تريد «إسرائيل» ومعها الولايات المتحدة ان يبقى لبنان على لائحة الانتظار لجهة التنقيب عن ثرواته في المنطقة الاقتصادية الحصرية العائدة له. إذ أنه ممنوع عليه ان يخطو خطوة في هذا الاتجاه قبل أن تنتزع منه المفاوضات غير المباشرة مع «إسرائيل»، ومع الوسيط الأميركي، حلا يرضي «إسرائيل» والولايات المتحدة قبل أن يرضي لبنان.

 إن إقدام «اسرائيل» على استغلال حقل كاريش في الجزء الجنوبي منه، وحرمان لبنان من التنقيب في الجزء الشمالي للحقل، وأيضاً في الحقول الواقعة شمال الخط 29، ومنعه من استغلال الحقول الغازية الواقعة في منطقته الاقتصادية الحصرية بين الخط 1 والخط 29، يثير أموراً عدة خطيرة هامة:

1 ـ تستطيع «اسرائيل» أن تشفط الغاز من كامل حقل كاريش، من نقطة الحفر، وبكميات كبيرة دون قيد او شرط، وهذا يأتي على حساب لبنان. ولطالما ان النزاع حول ترسيم المنطقة الاقتصادية الحصرية بين لبنان و»إسرائيل» مستمر، وان المفاوضات لا زالت تراوح مكانها، ولم تسفر حتى الآن لسبب أو آخر عن حل ايجابي، وقد تطول او تتوقف، فإنه يحظر على لبنان استغلال ثرواته أياً كانت الاسباب والحجج القانونية.

2 ـ إن عامل الوقت لا يدور في صالح لبنان. كما أن العدو ليس على عجلة من أمره لإنجاح المفاوضات وفقاً لقانون البحار والقانون الدولي الذي يضمن حقوق لبنان، لطالما انه يستغل ثرواته وثرواتنا في الحقول المشتركة على قدم وساق، فيما لبنان متخبط بمشاكله، وغارق في أزماته، نتيجة الخلافات المستحكمة بين الأفرقاء السياسيين، والانقسامات الحادة بين الزعماء، والمسؤولين، وتباين الآراء للكتل السياسية المختلفة، بالإضافة الى الوضع الاقتصادي والمالي المتدهور، وانهيار مؤسسات الدولة بشكل قلما شهد العالم مثيلاً له.

 مما لا شك فيه، أنّ لبنان لو أراد الشروع في التنقيب بمعزل عن مسار المفاوضات غير المباشرة التي يرعاها الوسيط الأميركي، فإنه سيصطدم بالرفض الاسرائيلي، والابتزاز الأميركي. وبالتالي لن يكون هناك من شركة عالمية تجرؤ أو تكون على استعداد للمجازفة في التنقيب واستخراج الغاز في منطقة متنازع عليها، معرضة في أي وقت لأعمال حربية. فهذه الشركات المغامرة ستصطدم مسبقاً بسلسلة من العقوبات الأميركية، وبضغوط قوية من اللوبيات اليهودية في العالم، مما سيدفعها الى الإحجام عن المغامرة، وبالتالي تفادي المقاطعة وحجم الضغوط والعقوبات القاسية التي ستكون بانتظارها.

 علامات استفهام عديدة تطرح حول تلكؤ المسؤولين، والتريث في توقيع مشروع المرسوم المعدِّل للمرسوم 6344، الذي مضى عليه أربعة عشر شهراً، لا يخدم مصالح لبنان ولا يعزز دور المفاوض اللبناني. هذا المرسوم يوفر للبنان الغطاء الرسمي والقانوني، فيما لو أراد طرح موضوع المنطقة الاقتصادية الحصرية داخل المنظمات الدولية، لا سيما منها الأمم المتحدة.

3 ـ في الوقت الذي نجد فيه «اسرائيل»، تباشر باستخراج الغاز من حقل كاريش المشترك، بعد أن توفر لها كافة الإمكانات والمعدات الضرورية اللازمة، والتجهيزات التقنية والفنية والبشرية، نجد في جانب آخر، زعماء لبنان، في حيرة من أمرهم، لا يعرفون كيف، ومتى، ومن أين سيبدأون، حيث يشوبهم الحذر والتردد، وكأنهم في حالة انعدام الوزن.

فهم لم يتفقوا حتى الآن، على قرار وطني موحد صريح وحاسم، يحدد بصورة قطعية خط الترسيم البحري للمنطقة الاقتصادية الحصرية اللبنانية، الذي سيفاوضون بشأنه.

 إنّ عدم تبني لبنان خط الترسيم النهائي يضعف المفاوض اللبناني أمام «اسرائيل»، وبالتالي يشجعها في ما بعد على التمادي في سرقة واستغلال الثروات اللبنانية البحرية، مستفيدة من تخبط وتردد المسؤولين اللبنانيين، مما يتيح لها في السنوات المقبلة شفط أكبر كمية غاز من حقل كاريش وغيره على حساب لبنان، دون أن يكون له رد فعل حاسم في هذا الشأن. مما سيؤدي الى حرمان الخزينة اللبنانية والأجيال القادمة من مئات المليارات من الدولارات.

4 ـ على قادة لبنان ومسؤوليه، أن لا يعوّلوا على المفاوضات غير المباشرة مع «اسرائيل» ولا على الوسيط الأميركي، على اعتبار انّ الكيان الاسرائيلي مصر بالمطلق على عدم القبول بالخط 29 الذي قد يطالب به لبنان، ولا حتى بخط الترسيم 23، قبل إجراء تعديلات لازمة على خطوط الترسيم.

 العدو الاسرائيلي سيراوغ ويماطل، وهذا هو سلوكه التفاوضي. يريد أن يبقي لبنان مسمّراً، معلقاً، دون أن يسمح له بالتنقيب عن ثرواته ليس فقط في كاريش، وإنما في كلّ حقول لبنان التي تحتوي على مخزونات ضخمة من النفط والغاز، طالما أنه لم ينل منه ما يريد، من مواقف سياسية متقدمة خارج مسألة المنطقة الاقتصادية الحصرية.

 إنها فرصة ذهبية أمام «إسرائيل»، حيث ترى في المفاوضات مجالاً رحباً للصفقة والمساومة مع لبنان. من خلالها، يتطلع العدو الى تحقيق إنجازات ترتبط بمسائل وقضايا سياسية، وحدودية وأمنية، وتطبيعية، يضمن من خلالها مصالحه الأمنية، والاقتصادية والاستراتيجية المستقبلية. لذلك تخيّر «إسرائيل» لبنان ضمناً، وتوجه له رسالة بالواسطة، لتقول له، إما منع التنقيب والانتظار، وإما الرضوخ قسراً بشروطها، وكلاهما لا يمكن للبنان القبول بهما. اللهم إلا إذا كان هناك في الكواليس اللبنانية من ينسق في الخفاء مع الوسيط الأميركي، ويمهّد معه لحلّ ما يرضي العدو «الإسرائيلي»، وإن أدى الأمر بهذا الحلّ الى التنازل عن جزء مهم من حقوق وثروات لبنان، نزولاً عند ضغوط وإملاءات وأوامر واشنطن، «ومونها» على من يتعاونون معها، ويلبون مطالبها التي تصبّ في خدمة «إسرائيل» ومطامعها في ثروات لبنان البحرية.

5 ـ ليعلم الجميع، وخاصة الذين يعولون على المفاوضات المستقبلية، أن حرص لبنان على التمسك بكامل حقوقه في منطقته الاقتصادية الحصرية، واستغلال ثرواته البحرية، لن يتحقق عبر المفاوضات مع «إسرائيل»، التي آثرت على مدى تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي، أن تناور، وتراوغ، وتماطل، وتستهلك الوقت، وتنتهز الفرص، هي التي تعوّدت على السرقة والابتزاز، تأخذ ولا تعطي وإن أخذت، تأخذ من جيوب العرب وإن أعطت، فإنّها تعطي من حقوقهم ومالهم.

 وحدها القوة التي تستطيع أن تحفظ الثروات والسيادة والقرار الحر المستقل للبنان، وتردع أطماع العدو فيه. فلا المفاوضات العقيمة مع الكيان الإسرائيلي تنفع، ولا الوساطات المنحازة تعطي أكلها. ولنا في ذلك تجربة مريرة مع العدو وحلفائه، لا سيما بعد صدور القرار الأممي رقم 425 عام 1978.

 وحدها المقاومة التي فرضت نفسها عام 2000 على المحتلّ، وأخرجته من أرضها. وحدها المقاومة التي مرغت أنفه في تلال ووديان الجنوب عام 2006. إنها لغة القوة التي يفهمها العدو، لذلك على لبنان الرسمي، والشعب اللبناني بكل أطيافه أن يقف وقفة وطنية جامعة للدفاع عن حقوقه وثرواته، يحصن المقاومة، ويوفر لها الدعم والتأييد.

إنّ توقيع مشروع مرسوم الترسيم المعدل، أمر ضروري عاجل، إذ يوفر الغطاء الشرعيّ من قبل الدولة للمقاومة، ويبعد عنها حملات الاتهامات المغرضة التي تصوّرها على أنها تهيمن على الدولة وتتحكم بها. بهذا الغطاء يستطيع الجيش والمقاومة ان يفعلا فعلهما على الأرض بمؤازرة الدولة والشعب، وأن يضعا حداً نهائياً للعربدة «الإسرائيلية» التي طالت.

 القرار بيد لبنان وليس بيد «إسرائيل»، ووسيطها الأميركي! فهل الدولة اللبنانية جاهزة وعلى استعداد لاتخاذ القرار الوطني الحاسم الذي يحفظ كرامتها، وكرامة جميع اللبنانيين، ويصون حقوق لبنان وثرواته؟!

 إننا ننتظر…!

*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى