أولى

متى يكون الأشدّ سوءًا؟

 الدكتور وجيه فانوس _

لبنان اليوم في حقبة من البؤس العام لم يعرف لها شبيها، ولا حتَّى في أيّة واحدة من الحقب التّاريخيّة السّوداء التي عاشها من قبل. تقبع غالبيّة إدارات الدّولة، في هذه المرحلة، في حال من تلاشي الفاعليّة الوظيفيّة؛ فلا الموظّفون قادرون على تلبية المتطلّبات الماليّة لكلفة وصولهم إلى مقارّ أعمالهم، وليس بمستطاع الإدارة، كذلك، تأمين غالبيّة مستلزمات العمل الإداريِّ من ورق وتصوير وسوى ذلك. جميع المستشفيات في حال يشبه ما يعانيه بعض مرضاها من حشرجة النّزع الأخير؛ نقص فاضح في الجهاز الطبيّ، وفقر مُزْرٍ في الأدوية، وشحٌّ قاتل في الطَّاقة الكهربائيّة.

النّاس، عن بكرة أبيهم، ما برحوا غير قادرين على الوصول إلى مدّخراتهم وجنى أعمارهم ومجالات سدّ احتياجاتهم الماليّة، فالمصارف ما انفكّت تُصِرُّ على احتجاز أموالهم ضمن ممتلكاتها، وتعمل على تزويدهم بالأقلّ من أقلّ القليل منها، لكفاية ما تقدّره إداراتها من الحدّ الأدنى من الأدنى لمستلزمات عيشهم اليوميّ. أمل اللّبنانيين، بثروة، من غاز طبيعيّ ونفط، مكنوزة في قعر المياه الإقليميّة لبلدهم، عساها تفكّ أسرهم من بؤسهم الماديّ؛ وقد عاموا على بحر الوعود بها، في السّنين العجاف الأخيرة، ما فتئت تتأرجح، بكلّ عنجهيّة فارغة، بين ضياع رسميّ مفتعل أو تِيهٍ سياسيّ مصطنع أو عمى وطنيّ كاسح؛ ولا جواب حول حقيقتها يشفي العليل أو يروي بعض الغليل. موعد انتخابات رئاسيّة، مقرّر خلال أشهر قليلة مقبلة، لا يُحَضَّرُ له سوى بمماطلات غير مقنعة، ولا يسار باتّجاهه سوى بخطوات تسويف عمياء، ولا ينظر إليهِ إلاّ بضبابيّة لا طائل منها سوى أمل مهدور مسبقا، لإبليس ما بدخول الجنّة.

يعيش اللّبنانيّون مثل هذا جميعه، وأكثر بكثير منه؛ بل ما هو أشدّ هولا ممّا يمكن للكلمات المنمَّقة، أو تلك الفجَّة، أن تعبّر، كما للتّحليل الاجتماعيّ أو النّظر السّياسيّ أن يَبِين. ومع كلّ هذا، ورغم جميع ما فيه من تضييع للحقوق وتهديم للوطن وتشويه للعيش الإنسانيّ وخزي للدّستور اللّبناني، فإنّ ثمّة هديراً صاخباً، يضجّ به الوجود الشّعبيّ اللّبناني، شَغِفٌ بالتّمسّك بالطّائفيّة السّياسيّة، ويَجْأَرُ بطلب رضى الزَّعيم وابن العائلة السّياسيّة؛ ضارباً عرض الحائط، وماسحاً إسفلت الشّوارع، بكلّ حقّ للمواطن في وطنه، أيّا كانت ديانته والمنطقة الجغرافيّة التي ينتمي إليها، ناهيك بالرّأي السّياسيّ الذي يعتقده.

ثمّة لبنانيّون كثر، بل كثر جدّا، لا يرون من الوطن سوى عِزّ لطائفة وفخر لمذهب ومجرّد وجود لقوّة زعيم وازدياد لثروته. لكن، لَئِن كان اللّبنانيّون المقيمون اليوم في لبنان، ووفاقاً لما تشير إليه وكالات الأخبار وبعض الدّراسات المستقلّة عن عديدهم، قد بلغوا زهاء أربعة ملايين نسمة ونصف المليون؛ إذ لا إحصاء رسميّ تعترف به الدّولة أو تعتمد عليه، سوى إحصاء سنة ١٩٣٢ اليتيم؛ وقد انتقلت الغالبيّة الكاسحة من ناسه إلى رحمة ربها، وفَنِيَت عِظام من قاموا به وصارت هَبَاءً منثورا؛ فأين جحافل هؤلاء المُعانين لواقع الحال هذا، والمعانين من بؤسه وهَوانِهِ، والمفجوعين بجميع حقوق مُواطَنَتِهِم جرّاء هذه الإدارة السّياسيّة للبلد؟

أين هذه الملايين، وناسها لو صرخوا، مجرّد صرخة واحدة مشتركة، لضجَّت بهم الدنيا؟ أين جوع هؤلاء القوم مما يأسونه من هذا الانخساف المفجع لموارد معيشتهم، وما يغرمونه من خساراتهم الفادحة للكثير الجمّ من مقومات وجودهم وأسس أمانهم ودعائم مستقبل أولادهم؟ أين أوجاعهم ومعاناتهم ومقاساتهم من كلّ هذا؛ ولِمَ الإصرار السّاذج، لكثيرين منهم، على رفضهم المتضامن والمتّحد لإنفاذ سلطة هذا أو ذاك أو ذلك أو أولئك، ممن يرون فيهم قادة وزعماء، من أهل القوامة على أمرهم، وهم، أساسًا، من أوصلهم إلى ما هم فيه من سوء؟

بأيّ منطق عقليّ ما زال هذا الشّعب، بغالبيّة له، يستبشر بخير يصيبه من إعادة انتخابه للمجلس النيابي، بالعقليّات ومناهج العمل عينها؛ وقد حقّقت له هذه المناهج وتلك العقليّات، وبنجاح مطلق، كلّ هذا الخراب الوطنيّ؟ وبأيّ منطق يُصِرُّ على الاحتفال بنجاحهم، بإغداقه زخّات رصاص متدفّقة بابتهاج أهوج ومخصيّ لفوزهم في هذه الانتخابات؟ وبأيّ عقل يظلّ هذا الشّعب يتأمّل خيراً من استشارات نيابيّة، لتكليف شخص يشكّل الحكومة العتيدة؛ متوسّما خيراً قد يصيبه في الأيّام والأشهر المقبلة، من قيادة سياسيّة لن تنبثق سوى من هؤلاء الّذين يتولّون اليوم القوامة على بؤس شؤونه ولا يبرحون، أبداً، عن افتتانهم السّفيه واللَّئيم باستغلالهم لأموره وإدارة حياته وفاق مصالحهم واتّباعاً لأهوائهم وأمزجتهم؟

قد تكون الجبال صمّاء، ويكون ما فيها من صخور مجرّد جلاميد صَلْدَةً لا حياة فيها؛ غير أنّ من هذه الجبال وتلك الصّخور، ما يَنْكَبُّ متصدّعا من الحقّ في خشية الله؛ ولربما تفجّرت من هذا الصّخر عيون ماء وأنهار تروي عطش الأرض وتخصب تربتها، فتنبت منها الخير زرعا وحصادا. فهل ما في هؤلاء اللّبنانيين من صَمَمٍ وصَلادَةٍ، لا يمكن أن يَخُرَّ جرَّاء خشيتهم على حقوقهم المنهوبة والمسلوبة والمحجوزة والمنتهكة؛ بل ليس له أن يتفجَّر، تاليا، عيون غضب وأنهار رفض، تروي عطشهم إلى حياة كريمة وتخصب وجودهم بما سبق أن اعتادوه من خير وبحبوحة؛ فينبت لهم في أولادهم أزهار عزّ ورياحين مجد وثمار عطاء مستدام بالخير؟

لقد سبق أن تمنّى الشّاعر اللّبناني، خليل مطران مرّة، لشدّة ما قاسى من أوجاع وآلام وحسرات، وهو المولود سنة 1872 في “بعلبك”، مدينة الشّمس والتّاريخ والفخر والبَذْلِ، والمتوفّى في “القاهرة” سنة 1949، أن يكون له قلب من صخر، ليفقد بهذا القلب الشّعور ولا يعود يحسّ الألم؛ فقال في قصيدة له بعنوان “المَسَاء”: [ثَاوٍ عَلَى صَخْرٍ أَصَمَّ وَلَيْتَ لِي/ قَلْبًا كَهَذِي الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ]؛ فهل يا ترى قد تحقّقت أمنية خليل مطران اليوم، في هذا الشّعب، الذي يبدو وكأنّه صار إلى جمود وصَمَمٍ وصَلادَةٍ، ولربّما مَواتٍ، ليس لا للجبال ولا للصّخور أن يُصابوا بمثله؟ وترى هل ثمّة، من هذا الشّعب، من يمكنه أن يذكر ويفهم ويستوعب ما سبق لأهل دار السَّلام، مدينة “زحلة”، جارة مدينة الشَّمس، “بعلبك”، أن ردَّدوه وتغنّوا به من قولهم (زَحْلِه يا دَارْ السَّلامْ/فِيكِ مَربَى الْأْسُودي/عالضَّيمْ وَاللهْ مَا مِنَّامْ/ المَوْتْ بْبُوزْ البَارُودِي)؟ أين أنتم اليوم، يا شعب لبنان؛ وأين إشراقات “مدينة الشّمس” وعزّة “دار السّلام” في وجودكم؟

لا تَخُرُّ الجبال، أو تَنْقَضُّ منهارةً، إلّا من وعي تعيشه لخشيتها لله؛ ولا تتفجّر عيون الماء وسواقي الأنهار من الصّخور الصّماء، إلا عند امتلاء هذه الجلاميد بطاقات الدّفع المائيّ المكتنز في تجاويفها؛ وكذلك فإنَّ الشّعب لا يعيش حقيقة كرامته ولا يحسّ بحقّه في الحياة، إلا عندما يدرك المعنى الفعليّ لعيشه بكرامة، وإلا عندما يستوعب حقّا أنّه مواطن حرّ وليس عبداً لمن يستغلّه. ولن يمكن للشَّعب، أيًّا كان، أن ينهضَ بمثل هذا الشَّأن باندفاعه العفويّ ووجعه الانفعاليّ؛ وقد كان للّبنانيين أن جرَّبوا هذا الأمر إبَّان ثوراتهم الانتفاضيَّة وتظاهراتهم الاحتجاجيَّة سنة 2019؛ غير أنّ كلّ هذا أثبت أنّه بحاجة إلى توجيه رياديّ حكيم وترشيد قياديّ رؤيويّ مسؤول؛ فمتى سيعرف كثيرون من ناس الشّعب هذا، ويعقلونه ويفقهونه ويفوزون به؛ متى؟

طال زمن الصّبر، حقّا طال؛ وصحيح أنّ الصّبر ميزة الأتقياء والأنقياء والطّيبين، غير أنّ صبراً لا نهاية له ولا نتيجة منه سوى مزيد من الصّبر، هو خنوع؛ وسيصيرُ، في نهاية المطاف مَوْتًا زُؤامًا. كفى لهؤلاء اللّبنانيين ما عاشوه تحت لواء رعيان الطّائفيّة السّياسيّة والولاءات للزّعامات الاستغلاليّة؛ كفاهم ما جنوه من خراب وبؤس. آن لهم، بلى آن لهم، وفعلا آن لهم، أن يعيشوا مواطنين، ينعمون بخير وطنهم، بحقّ مواطنيّتهم وحدها.

* رئيس ندوة العمل الوطني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى