مقالات وآراء

التكليف حاصل والتأليف مؤجَّل…

} علي بدر الدين

 بات واضحاً أنّ انتخابات مجلس النواب الداخلية وما سبقها وتخللها وأعقبها من تحالفات وتباينات وإرباكات، أكدت بما لا يدع مجالاً للشك، انها أرست معادلات سياسية ونيابية جديدة لم تشهدها المجالس النيابية السابقة، ولا الحياة السياسية التي كانت تتحكَّم بها الأكثرية السلطوية في كلّ مواقع الدولة، حيث الهيمنة المطلقة لها على مقدراتها ومؤسساتها وإداراتها، كما في التعيينات الإدارية والتشكيلات القضائية والديبلوماسية، وحتى في كلّ تفصيل فيها، مهما كان صغيراً وهامشياً، على أساس المحاصصة وتقاسم النفوذ والسلطة والمال، وعقد الصفقات وتوزيع المغانم بالتراضي، من خلال المجالس والصناديق الموزعة طائفياً ومذهبياً ومناطقياً أو من خارجها.

الأكثر وضوحاً وتأثيراً للمنظومات السياسية المتعاقبة، كان في اتفاقها وإقرارها لقوانين انتخابية تتيح لها الفوز وتأمين الأكثرية في ايّ استحقاق انتخابي نيابي تحديداً قبل حصوله، وقد حقق لها القانون الانتخابي ما أرادته في دورة 2018، ولكن حساب بيدرها في انتخابات 2022 لم يطابق حساب حقلها، وقد خلطت الأوراق وأفرزت معادلات ونتائج لم تكن في حساب أحد رغم تواضعها وضآلة تأثيرها لغاية الآن، لكنها أربكت المنظومة وهزَّت أسس بنيانها، وظهرت مفاعيلها الأولى وإنْ من ناحية الشكل، في انتخابات مجلس النواب التي لم تكن مألوفة في انتخابات مماثلة سابقة، لا في الشكل ولا في التفاصيل التي لم يعتَد النواب القدامى عليها.

ما حصل ويحصل قبل الاستشارات النيابية الملزِمة التي دعا إليها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون لتسمية مَن سيكلَّف بتشكيل الحكومة، يؤشِّر إلى عدم وجود كلمة السر هذه المرَّة التي كانت تعطى لأكثرية الكتل النيابية المتفاهمة على الإسم سلفاً، وقد أُخرِجَت من التداول، وحلَّ مكانها إجراء عمليات بحثٍ وتحرّ عن أسماء مطروحة من خارج نادي رؤساء الحكومات التقليديين، دخلت أو أُدخلت بورصة الترشيحات للموقع السلطوي الثالث، والتي تخضع لـ «تدخلات» عربية وخارجية علنية ومحاولات إقناع محلية بـ «المونة» على هذه الكتلة أو تلك، مقابل وعدٍ «بردِّ الجميل» وبخدمة في أحد مواقع السلطة لقريب أو صديق أو مستزلم.

لا غرابة في ما شهدته الأيام والساعات التي سبقت وأعقبت، تحديد رئيس الجمهورية موعد الاستشارات النيابية (اليوم) من سجالات وتجاذبات وترشيح أسماء، ومن تدخلات واستدعاءات وتحفيزات ومواقف معلنة لكتل نيابية وازنة وأخرى متواضعة بتسمية فلان أو علاّن، في حين انّ بعضها لن يكشف سرّه إلاّ وهو بين يدي الرئيس عون، والمؤسف انّ رؤساء بعض الكتل النيابية المؤثِّرة، يضع شروطاً عالية السقف إذا ما أراد  «التصويت» لمن يميل ميزان التسميات لصالحه أياً يكن، لأنّ هذه الكتل تسعى وتطمح للإمساك بحقائب وزارية دسمة تبيض ذهباً ومالاً ووظائف وخدمات، لأنها تبحث عن ضمان «مستقبلها» إذا ما تعرّضت لغدرات السياسة والزمن، ولتبقى فاعلة ووازنة في كلّ مواقع الدولة والسلطة، في التعيينات والتشكيلات والفئات الوظيفية الأولى.

هذا السلوك السياسي الأعوج لمعظم المنظومة، ليس جديداً او مفاجئاً، لأنه في الأساس صفة متأصّلة فيها ومتعوب عليها منذ زمن، أدَّت إلى تضخًّم شهوتها إلى السلطة، وسيطرت عليها الـ «أنا» والأنانية وعشق الذات السلطوية، ولا همَّ عندها إنْ انهار الوطن أو تفككت الدولة وانعدم وجودها، أو افتقر الشعب وجاع وتهجّر ومات مرضاً وقهراً وذلاً و»اشتهى اللقمة».

هذا الإرباك السياسي والطائفي والنيابي الطاغي دون سواه، وضياع بعض الكتل والنواب وفقدان توازنهم، والتردّد في خياراتهم والارتباك في مواقفهم، لم يأتوا من عدم، بل نتيجة للضغوط الداخلية والخارجية ولحجم العناوين والشعارات والأسماء المتداولة إما للمناورة أو للمزايدة أو «للحرق»، مع انّ المطلوب واحد في الميدان، يصول ويجول ويشترط ويتشرًّط، وقد ترسو الاستشارات النيابية على شاطئه وتسميته وهو لغاية الآن، رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، وإنْ نال عدداً ضئيلاً من «الأصوات» تكفي لتكليفه، إذا لم يطرأ أيّ تبدّل أو تحوّل في الثواني الأخيرة من مباراة السباق إلى مرتبة التكليف.

المعضلة الكبرى هي في التأليف حيث الشياطين الكامنة في تفاصيل الحقائب والأسماء والأعداد، وتضخًّم الشروط وتتكاثر المطالب.

المنظومة السياسية بكلّ مكوناتها تبرَع وتبدِع وتُصارع حتى «طواحين الهوا» من أجل مصالحها ومكتسباتها وللحفاظ على ثرواتها «الحرام» الآتية من أموال الدولة والشعب وهرّبتها إلى الخارج، وتستشرس عند كلّ استحقاق دستوري سلطوي، لكنها مع الشعب تتحوًّل إلى نعامة تضع رأسها في الرمل، وتتركه فريسة سهلة للفقر والجوع والمرض، ولـ «مافياتها»، وتجار الجشع والاحتكار والفساد والتلاعب بلقمة عيش المواطن وعملته الوطنية، وتمنع الاقتراب منهم لأنها تؤمٍّن لهم الحماية والغطاء بخطوط حمراء مكهربة.

المشكلة الآن ليست محصورة بمَن سيكلَّف لتشكيل الحكومة، رغم إظهار المعركة كأنها «حامية الوطيس»، والجميع يعلم تماماً، أنّ المعضلة الأكبر والأكثر تعقيداً هي عملية التأليف، التي يمكن وصفها فعلاً بـ «أمّ المعارك» لأهمية توقيت ولادتها القيصرية أو الطبيعية لا فرق إذا لم تُجهَض بفعل فاعل أو فاعلين، والبلد على بعد بضعة أشهر من فالق استحقاق انتخاب رئيس جديد للجمهورية. وهذا يعني أنّ لبنان وشعبه سيبقيان على فوالق الانهيارات المتتالية اقتصادياً ومالياً واجتماعياً وخدماتياً، كرمى عيون المنظومة التي لا ترى أبعد من مصالحها، ومن بعدها الفوالق والطوفان والغرق…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى