أولى

المزاج الأوروبيّ الجديد

 سعاده مصطفى أرشيد _

كان أسلوب الولايات المتحدة في إدارة أزمة الحرب الروسية الأوكرانية، إطالة أمد الحرب واحتواء روسيا واستنزاف اقتصادها، بقطع الطريق على صادراتها ثم برفع أكلاف الحرب وإدامتها لتصبح مستنقعاً شبيهاً بالمستنقع الأفغانيّ الذي كان له دور مهمّ في سقوط الدولة الروسية السابقة ونظامها الشيوعيّ، ولكن حسابات واشنطن كانت بعيدة كلّ البعد عن الدقة، وكانت النتيجة أن مثلّت الحرب مصدر دخل وداعم اقتصاديّ يرفد الخزانة الروسيّة، وكلما طالت الحرب عادت بالمزيد من الربح المالي والقدرة السياسية على حجز مكان متقدّم في النظام العالمي قيد التشكل، وتحوّل الاستنزاف إلى اقتصاديات العالم وبشكل خاص للاقتصاد الأوروبي .

منذ أيام نشرت صحيفتا «فايننشال تايمز» و»واشنطن بوست» تقارير تفيد بأنّ تغيّرات خطيرة وتحوّلات جوهرية تجري على المزاج الأوروبيّ الرسمي والشعبي، وذلك في تعاطيهم مع تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، فهم يرون الروس يخوضونها وتنفخ واشنطن في نارها فيما هم من يدفعون مغارمها.

ألمانيا وهي رابع أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة والصين واليابان كانت قد أعدّت دراسة عام 2018 للإجابة على السؤال: ماذا لو توقف تدفق النفط والغاز من روسيا؟ النتيجة الافتراضيّة كانت مرعبة إذ سيتوقف التعليم المدرسي والجامعي وينهار النظام الصحي. ستتوقف معظم المصانع عن العمل ويصبح عمالها وموظفوها عاطلين عن العمل، ستبقى الأراضي الزراعية بوراً ويباباً فيما تنهار مؤسسات الرعاية الاجتماعية وتفلس صناديق البطالة، ستختفي الكهرباء المنزلية وتنقطع التدفئة الضرورية في تلك البلاد ذات الشتاء القارص، باختصار سينهار كلّ شيء، ولكن هذا السيناريو الافتراضي بدا خيالياً وفنتازياً وغير قابل للتطبيق، فلم تأخذه الحكومة بالجدية التي تبيّن أنها مطلوبة، وبالتالي لم تتخذ ما يلزم من إجراءات وتصورات للتعامل مع سيناريو كهذا، والنتيجة أن «وقعت الفاس في الراس» كما يقول المثل، وتشير التقارير الألمانية إلى أنّ صهاريج النفط والغاز الاحتياطيّة لم يبقَ فيها إلا 56% من المخزون، هذا وقد خفضت روسيا من كميات النفط والغاز المصدّر إلى ألمانيا بحجة عمل الصيانة في خطوط التزويد وحاجتها إلى قطع غيار، في حال استطاعت ألمانيا حلّ بعض إشكالات التزوّد بالطاقة من مصادر أخرى فطرقها ستكون معقدة وطويلة ومكلفة، إضافة إلى أنّ أقصى ما تستطيع تدبيره هو 33 مليار قدم مكعب من الغاز فيما حاجتها السنوية تتجاوز المليار قدم مكعب. في حال توقف تدفق الغاز والنفط الروسي نهائياً لألمانيا فإنّ خسائرها وفق ما يقول اقتصاديوها ستبلغ 451 مليار يورو، وهي كارثة تقارب ما حصل في ألمانيا عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية.

انجلترا داعم واشنطن في الحرب وفي كلّ سياساتها كانت تتحرّق شوقاً لترى كيف تكتوي موسكو بالنار الأوكرانية، ولكنها اليوم تكتوي بارتفاع الأسعار الذي وصل إلى حدود غير مسبوقة، في حين تعاني البلاد من إضرابات تكاد تشلّ الحياة فيها وأهمّها إضراب عمال السكك الحديدية التي تقودها نقابات قوية وقد تنتقل الإضرابات إلى قطاعات حيوية أخرى، فيما تعلو الأصوات اسكتلندا وشمال إيرلندا داعية للانفصال عن إنجلترا والاستقلال، أما رئيس الوزراء بوريس جونسون فيضطر للتصريح حول ضرورة دعم أوكرانيا لتحقق شيئاً من التوازن قبل الدخول لمفاوضات تفضي الى اتفاقية غير سيئة .

 في فرنسا يحاول ماكرون يائساً البحث عن دور لشخصه الذي يعاني من نتائج الانتخابات البرلمانية غير الحاسمة، وعن دور لبلاده التي تعاني اقتصادياً جراء الحرب، ثم عن دور لأوروبا بقيادة فرنسا في النظام العالميّ قيد التشكل، يحاول أن يكون دائم الحضور وإنْ كان تأثيره هامشياً، وحسب الأنباء فقد أجرى مكالمة هاتفية لمدة تسع دقائق مع الرئيس الروسيّ نشر الإعلام الروسي بعضاً من تفاصيلها، فقد طلب من بوتين عدم توتير الأوضاع أكثر والاجتماع للتفاوض مع الرئيس الأوكراني، لكن بوتين أجابه متسائلاً: هل تعرف أين أنا الآن، إني أمارس هواية التزلج على الجليد، ثم أكد أنه يشعر بأنّ ماكرون غير ملمّ بكثير من التفاصيل بسبب عدم كفاءة مستشاريه، اقترح ماكرون في النهاية عقد قمة تجمع الرئيسين الروسي والأميركي في جنيف، ويبدو أنه يعمل على ذلك الآن.

لم يرشح شيء حول إمكانية عقد القمة الروسية الأميركية في قمة بافاريا للسبعة الكبار… وإنما كان الأهمّ ما نقله ماكرون على لسان محمد بن زايد بأنّ بلاده لا تستطيع رفع إنتاجها من النفط لأسباب فنية وأنّ السعودية تستطيع رفع الإنتاج لفترة قصيرة بزيادة 150 ألف برميل يومياً وهو ما يستهلكه بلد مثل ألمانيا في أقلّ من ساعة.

هكذا أدخلت الحرب الروسية الأوكرانية العالم في أزمات الأمن والطاقة والغذاء، لم تكن إطالة أمد الحرب إلا عوداً بالنفع على موسكو، وهي لا تلقي بالاً لأزمات ألمانيا وغيرها من دول أوروبا الشركاء مع واشنطن في حلف شمال الأطلسي، ولم ترسل من فوائض قمحها وشعيرها للدول التي أصبحت تعيش على شفير مجاعة، لا يشغل بال الأميركي أن يجوع العربي او الأفريقي ولا يجد خبزاً، ولا أن يتجمّد الألماني من البرد وأن يتحطم اقتصاده وتتقطع أوصاله، فالجميع ـ بيضاً أم سمراً أم سوداً ـ ليسوا بنظر الأميركي إلا أدوات وأشياء…

*سياسيّ فلسطينيّ مقيم في الكفير ـ جنين ـ فلسطين المحتلة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى