أخيرة

ثقافة الفلسفة القوميّة الاجتماعيّة ثقافة المحافظة على الجودة وتوليد الأجود*

} يوسف المسمار**

للثقافة ثلاثة اتجاهات: الأول اتجاه رجعيّ، والثاني اتجاه عابر يقتصر على الوضع الحاليّ، والثالث اتجاه نحو التحديث الدائم.

 ويمكننا اختصار هذه الاتجاهات في أنواع ثلاثة: الثقافة التقليدية المتخلفة، والثقافة الآنية العابرة، والثقافة التوليدية النامية الراقية.

وكل نوع من هذه الثقافات لا يستغني عن الأنواع الأخرى بل جميع هذه الأنواع متصلة بعضها ببعض ومن الصعوبة بمكان فصلها عن بعضها. ولذلك يمكن اختصارها في نوعين : ثقافة التخلف وثقافة الارتقاء.

وسبب التخلف أو الآنية أو الرقي لا يأتي من الثقافة نفسها، بل يعود السبب الى الإنسان – الفرد او الإنسان – المجتمع المتخلّف أو المتقدّم. والتخلف أو التقدم الثقافي هما أمران حادثان بتخلف الإنسان او رقيّه.

 فالثقافة المتخلفة هي بالضبط ثقافة التقهقر والجمود، والثقافة الراقية هي ثقافة التقدّم والارتقاء الحضاري.

 فإذا كان سبب التخلف يأتي من انعدام الوعي والنضوج واكتمال الأهلية الفردية والاجتماعية، فإن الرقي يكون بحصول الوعي والنضوج واكتمال الأهلية الفردية والاجتماعية وتنبّه الذات العامة ويقظة الوجدان الاجتماعي الإنساني في الفرد والجماعة.

ففقدان الوعي هو سبب عدم النضوج واكتمال الأهلية الذي يسبب الثقافة المتخلفة تقليداً وآنياً وتقدّماً تراكمياً. ولذلك حداثتها في تقليد التقاليد كيفما كان، وعصرنتها المحافظة على التقاليد كيفما اتفق، وتجديدها جمع وتكديس التقاليد صالحها وفاسدها دون غربلة وتطهير. وهذه سمات التخلف الثقافي.

أما حصول الوعي، فإنه السبب الجوهري للنضوج واكتمال الأهلية التي تنشئ الثقافة الراقية التاريخية والحالية والتوليدية النامية باستمرار. فتختار من التقاليد الجيّد وتحافظ عليه وتهمل الرديء ولا تهتم به وتقوم بتوليد الأجود وتنميه وتطوره فتصل الماضي الصالح بالحاضر المعيش وتولّد الأصح ليكون ماضيها وحاضرها ومستقبلها صلاحاً. ولذلك يمكن القول إن حداثتها تقاليد صلاح، وعصرنتها محافظة على ما بقي صالحاً من التقاليد، وتجديدها توليد ما يمكنها تجديده للأصلح.

فالوعي والنضوج القومي – الاجتماعي – الإنساني ينتج ثقافة الحداثة الدائمة تقليداً وتواصلاً وتوليداً.

فاذا قلّد فإنه يأخذ من التقليد كل صالح، واذا حاول ان يحافظ على صلاح حاله فإن محاولته هي وصل صالح التقليد بصالح الآني ليصل الى التوليد الأصلح؛ وهذا عكس فقدان الوعي القومي – الاجتماعي – الإنساني الذي يؤدي الى اجترار ثقافة التقليد الرجعية بصالحها وفاسدها، ويحافظ على صلاح حاله باستخدام كل ما ينفعه بغض النظر عما اذا كان صالحا او فاسداً، فيجعل الصالح والفاسد نقطة وصل لتوليد ثقافة حداثية تحمل في جوهرها الفساد والصلاح فيشتبه على المثقف التوليدي معرفة الأصلح من الأفسد ويتوهّم أن الفاسد صالحاً والصالح فاسداً.

والفرق بين المثقف المتخلف والمثقف الراقي هو ان المثقف المتخلف يجتر الماضي بسيئاته وحسناته ويحافظ في حاضره على ما ينفعه آنياً وعابراً بغض النظر عن السيئات ويعتبر أن الحياة تتوقف على رغباته الأنانية وشهواته الخصوصية سواء كان فرديا أنانياً او فئوياً مجموعياً او اجتماعياً عرقياً شوفينياً منغلقاً على ذاته.

يمكننا أن نفهم مما تقدم، ان الوعي القومي –الاجتماعي – الإنساني في الإنسان – المجتمع التام، لا الأناني، في الإنسان – الفرد الجزئي هو الذي ينتج الحضارة.

 والثقافة الإنسانية الراقية هي ذات طبيعة عامة، فإنها هي إنتاج الأمم التي تميزت بالوجدان الاجتماعي – الإنساني الراقي وساهمت في إنتاج ثقافة التمدن المادي – الروحي بتفكيرها القومي – الاجتماعي ودرجة رقيها وتقدمها.

يمكننا أن نفهم أيضاً مما تقدّم، أن الوجدان الاجتماعي في الفرد والمجتمع، لا الوجدان الأناني في الإنسان – الفرد، ولا الشعور الشوفيني الفئوي في الإنسان – المجتمع هو العامل الأساسي الذي أنتج ثقافة الحضارة.

وبما أن الثقافة الإنسانية ذات طبيعة عامة، يمكننا أن نرى بوضوح أن ثقافة المادية – الروحية الحضارية هي إنتاج الأمم التي تميزت بالوعي الاجتماعي، وفقًا لتفكيرها القومي – الاجتماعي، وعلى نسبة درجة تطورها الثقافي.

 وبناء على أهمية الثقافة في حياة الأمم وتمدنها وتحسين مستوى حياتها، فقد أولى العالم الاجتماعي انطون سعاده اهتماماً كبيرا بموضوع الثقافة، وأسس الندوة الثقافية لدرس تعاليم النهضة القومية الاجتماعية والقضايا التي تتناولها واعتبار ذلك ضرورة لا يمكن إغفالها، واعتبار الحضور الى الندوة، خصوصاً في الأوساط الثقافية، كما ورد في المحاضرة الأولى بتاريخ 7 كانون الأول سنة 1948:

 “واجباً أولياً أساسياً في العمل للحركة القومية الاجتماعية، لأنه إذا لم نفهم أهداف الحركة وأسسها والمسائل التي تواجهها لم نكن قادرين على فعل شيء في سبيل الحركة والعقيدة والغاية التي اجتمعنا لتحقيقها. فالمعرفة والفهم هما الضرورة الأساسيّة الأولى للعمل الذي نسعى إلى تحقيقه».

أما الحركة والعقيدة والغاية التي أشار اليها أنطون سعاده فهي حركة نهضة وحدة مجتمع الأمة، والعقيدة فهي عقيدة وحدة الأمة الواعين الصالحين بمدنييها ودينيينها وليس بفئوياتها وطائفياتها المكفرة بعضها بعضاً، والغاية هي وحدة طلائع أجيال الأمة في تعاقبها المتسلسلة الصاعدة الى قمم حياة العظمة الى ليس لها نهاية في التقدم والارتقاء والتسامي.

لا سبيل الى الخلاص من ثقافة التخلف ومن الفوضى التي تنتشر في بلادنا، ولا وسيلة للتحرر من الأطماع الخارجية الا بالوعي القومي – الاجتماعي الإنساني، واتخاذ التفكير القومي الاجتماعي دليلاً أولياً وأساسياً لترسيخ ثقافة حضارية عملية تؤدي الى تحقيق نهضة أمتنا المادية والروحية حتى تكون أمتنا قادرة على المساهمة والمشاركة في تعزيز الثقافة الإنسانية التي تعود بالنفع والخير والصلاح والسلام على أمتنا والأمم جمعاء.

 فتولد بذلك الثقافة الإنسانية الجديدة الراقية التي تصلح للنهوض بالحياة الإنسانية، وتكون كما عبر عنها العالم الاجتماعي والفيلسوف انطون سعاده: “قاعدة الحقيقة الأساسية الكبرى لحياة أجود، في عالم أجمل، وقيم أعلى» لجميع بني البشر وجوديين وماورائيين، دنيويين ودينيين، ماديين وروحانيين.

*ترجمة للمقال الذي نشر بالبرتغاليّة.
** المدير الثقافيّ للجمعيّة الثقافيّة السوريّة – البرازيلية التابعة للحزب السوري القومي الاجتماعي.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى