مقالات وآراء

لو لم يكن الثامن من تموز 1949

} أنطون سلوان*

في الثامن من تموز عام 1949 اغتيل أنطون سعاده في محاكمة فيها الكثير من الظلم والتجني والحقد والإجرام. اغتيل أنطون سعاده المفكر والفيلسوف وعالم الاجتماع والأديب قبل أن يُغتال أنطون سعاده زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي.

عندما نعود الى الكلمات الأخيرة لأنطون سعاده، «أنا لا يهمّني كيف أموت بل من أجل ماذا أموت»، لا بدّ من طرح السؤال التالي، من أجل ماذا مات أنطون سعاده؟ ولماذا كان فخوراً لهذه الدرجة بهذا الموت؟

إنّ الأفعال والإنجازات التي حققها أنطون سعاده في حياته القصيرة زمنياً كانت هي السبب المباشر لموته واستشهاده، استشهد أنطون سعاده من أجل ما آمن به على أنه الطريق الأمثل لحياة سورية.

أنطون سعاده لم يعدم لأنه سرق ما ليس له، أو لأنه قتل أو لأنه قد سبّب تعاسة لأحد. إنّ أولى «الجرائم» التي أعدم أنطون سعاده من أجلها هي نظرته الى المجتمع وعمله المتواصل من أجل وحدة المجتمع وخير المجتمع وقوة المجتمع وما قوله، «فوحدة المجتمع هي قاعدة وحدة المصالح وحدة المصالح هي وحدة الحياة. وعدم الوحدة الاجتماعية ينفي المصلحة العامة الواحدة التي لا يمكن التعويض عنها بأية ترضيات وقتية،» إلا دليل على هذه الجريمة.

«جريمة» أخرى اقترفها أنطون سعاده كانت نظرته للدين والى سمو الدين الى درجة لا يجوز فيها استغلاله ليكون شريكاً في العمل السياسي الذي لا يخلو من الانحدار الأخلاقي والعمل الملتوي. نظر سعاده الى الدين كعامل لتشريف الحياة ورفع الإنسان الى درجة عالية من الأخلاق والعمل للخير العام والمنفعة العامة وبذل الذات في سبيل الكلّ واحترام الإنسان للإنسان وعمل سعاده لمنع اقتتال الإنسان مع الإنسان من أجل كسب الجنة وربح السماء، «فإنّ قضايا السماء تحلّ في السماء. إنها قضايا بين الفرد والله، لا بين جماعة وجماعة، فلا فائدة من اقتتال جماعة وجماعة لأجل السماء ما دام الله هو الديّان الذي يقضي يوم الحشر، وما دام الناس قد أسلموا لله».

حدّد أنطون سعاده بدقة عناصر القوّة على أنها ذات شقين متكاملين. القوة النفسية والقوة المادية، وأكد بأنّ القوة النفسية هي عنصر مهمّ من عناصر قوة الإنسان وقوة المجتمع ولكنها تبقى محتاجة الى القوة المادية مهما بلغت من الكمال. واعتمد سعاده على مبدأ التكامل ما بين المادة والروح أساساً للحياة الإنسانية مشدّداً على وجوب أن يتحوّل الصراع بين المادة والروح الى تفاعل متجانس يحيي ويعمر ويرفع الثقافة ويسير الحياة الى أرقى مستوى.

عمل سعاده على بناء الإنسان العقلاني المدرك العالم العارف الواعي الحكيم، لا الإنسان الذي يسير أينما تقوده غرائزه وانفعالاته، الإنسان الذي يفعل ما لا يتعارض مع الأخلاق العامة، الإنسان الذي لا يساوم الباطل ولا يهادن الشر ولا يسالم الأشرار من أجل البقاء على قيد «العيش» على حساب كرامته وكرامة وطنه وأمته. عمل سعاده من أجل أن يكون «العقل في الإنسان هو الشرع الأعلى والشرع الأساسي لأنه هو موهبة الإنسان العليا. هو التمييز في الحياة فإذا وضعت قواعد تبطل التمييز والإدراك، تبطل العقل، فقد تلاشت ميزة الإنسان الأساسية وبطل أن يكون الإنسان إنساناً وانحط إلى درجة العجماوات المسيّرة بلا عقل ولا وعي».

والجريمة الأكبر والأخطر التي اقترفها أنطون سعاده كانت بأنه أدرك باكراً الخطة اليهودية لاحتلال فلسطين وتأسيس كيانهم الغاصب على كامل التراب السوري من بيروت الى الشام ومن عمّان الى بغداد ووضع يدهم على ثرواتها المائية والنفطية والسياحية وإبعاد شعبها الى المنفى البعيد بعد خسارته أرضه وكرامته.

لم يكتف سعاده بإدراكه لهذه الخطة بل عمل على مواجهتها بكافة السبل والوسائل أوّلها المعرفة والوعي لما يخطط له وثانيها القوة العسكرية القادرة على مواجهة المحتلّ ودحره عن أرض فلسطين وإبعاد خطره عن الأراضي السورية الأخرى مؤكداّ في خطاب في برج البراجنة بتاريخ 29 أيار 1949 أنّ «الدولة اليهودية تخرّج اليوم ضباطاً عسكريين، وأنّ الدولة السورية القومية الاجتماعية التي أعلنتها سنة 1935 تخرّج هي أيضاً بدورها ضباطاً عسكريين! ومتى ابتدأت جيوش الدولة الجديدة الغريبة تتحرك بغية تحقيق مطامعها الأثيمة والاستيلاء على بقية أرض الآباء والأجداد، ابتدأت جيوشنا تتحرك لتطهير أرض الآباء والأجداد وميراث الأبناء والأحفاد من نجاسة تلك الدولة الغريبة

من أجل هذا كله اغتيل سعاده فجر الثامن من تموز. اغتيل سعاده لكي يبقى المجتمع مفتتاً مقسّماً غير قادر على تحديد مصالحه العليا وغير قادر على العمل لتحقيقها. اغتيل سعاده لكي يبقى الصراع بين الطوائف والمذاهب باسم الدين والاختلاف الديني وسيلة أساسية من وسائل الأعداء لإخضاع مجتمعنا واختراقه إاضعافه ولكي يواصل شعبنا قتاله من أجل السماء حتى ولو كانت النتيجة أن يفقد الأرض.

اغتيل سعاده من أجل قتل القوة النفسية الراقية في شعبنا وإبعاده عن عناصر القوة المادية عسكرية كانت أم اقتصادية. اغتيل سعاده لمنع العقل من أن يكون في الإنسان هو القوة المميّزة المدركة التي تمكنه من أن ينظر في شؤونه وأن يكيّفها على ما يفيد مصالحه ومقاصده الكبرى في الحياة.

اغتيل سعاده، وهذا هو السبب الأساسي لاغتيال سعاده، لمنعه من حماية الأمة السورية بشكل عام وفلسطين بشكل خاص من الخطر اليهودي الذي يتهدّدهما.

لذلك لو لم يكن الثامن من تموز ولم يستشهد أنطون سعاده باغتيال سياسي مدروس ومؤامرة محبكة، هل كانت الأمة السورية ومختلف كياناتها تعاني ما تعانيه الآن؟ رغم اغتيال أنطون سعاده فإنّ فكره وعقيدة الحزب السوري القومي الاجتماعي التي خاطب بها سعاده أجيال الماضي وأجيال الحاضر وأجيال المستقبل هي أقوى من القتل والاغتيال هي الخلاص وبها وحدها الخلاص ومهما اشتدّ عليها الحصار وأضرمت حولها النيران ستخرج من بين ألسنة اللهب لتحرق كلّ شر وباطل وتحقق النصر الذي قد تبعده الظروف والمؤامرات ولكن لا مفرّ منه لأنه القضاء والقدر.

 

*ناظر الإذاعة في منفذية البقاع الغربي في الحزب السوري القومي الاجتماعي
العدالة السوداء…!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى