أولى

شاء أم أبى: لبنان خامس أقوى دول الإقليم!

 د. عصام نعمان

 

لعلها أغرب حقائق عالمنا المعاصر: لبنان أصبح رغماً عنه خامس أقوى دول الإقليم.

أسبابُ الغرابة خمسة:

أوّلها انّ لبنان ليس في الواقع دولة، دولته انهارت منذ ثلاث سنوات او اكثر. ما هو باقٍ منها الآن مجرد رقعة جغرافية يتهاوى فيها هيكل متهالك لدولة مجازية.

ثانيها أنّ نواطير الآثار الباقية مختلفون في ما بينهم، مشتبكون دائماً، يتهادنون كأعداء أحياناً، قلّما يتفقون على مصلحة مشتركة او يتحالفون ضدّ عدو ماثل.

ثالثها انّ نواطير الآثار الباقية هم في الواقع زعماء مزعومون أو مقبولون لطوائف متمايزة أضحت كيانات سياسية متباينة تفتقر غالباً الى إرادة مشتركة إزاء تحديات نواجهها جميعاً.

رابعها انّ أحد هذه الكيانات المتصارعة تزايدت قدراته بالمقارنة مع الآخرين بفعل ظروف داخلية ودعم خارجي فأصبح الأقوى، مادياً ومعنوياً وعسكرياً، والأقدر تالياً على تظهير إرادته وحمل الآخرين محلياً وحتى اقليمياً على احترامه وأخذه في الحسبان.

خامسها أنّ جماعةً جهادية منظّمة داخل أحد الكيانات السالفة الذكر انتخبت قائداً لها مقتدراً هو السيد حسن نصرالله، تمكّن بمواهب قيادية مميّزة ومساندة سياسية ومادية سخية من أنصار ومحازبين محليين وحلفاء اقليميين مقتدرين من تعبئة جمهور الكيان الذي ينتمي اليه، فكان أن مدّ شعبيته ونفوذه الى خارج كيانه بالتساوق مع مكاسب سياسية حققها بوجه منافسين محليين وانتصارات ميدانية على أعداء خارجيين أبرزهم صهاينة متجذرين في شريط حدودي كبير. انتصاراته ساعدته في بناء مقاومةٍ نظامية وشعبية عابرة للكيانات الأخرى وقادرة على حمل متزعّميها كما قيادات كيانات إقليمية مجاورة على الاحتراز وأخذها في الحسبان.

حدث في الأسبوع الماضي انّ السيد حسن نصرالله فاجأ أنصاره كما منافسيه وأعداؤه بمواقف بالغ الأهمية والخطورة. فقد أعلن، في إطار ملف النفط والغاز والصراع مع العدو الصهيوني، بأنّ القضية تتجاوز مسار التفاوض مع «اسرائيل» بوساطة أميركية الى ما هو أبعد من ذلك، ايّ بما يعتبره متصلاً بأمن موارد الطاقة في الإقليم برمّته.

في حديثه الخطير ركّز نصرالله على قضايا خمس:

أوّلاً، انّ ثمة دولاً وقوى تريد للبنان أن يموت جوعاً واقتتالاً على لقمة العيش، وانّ المقاومة مستعدة لمواجهة هذا التحدي بما هو أقسى وأشدّ ليس على العدو «الإسرائيلي» فحسب بل على الدول المستفيدة من برامج استمداد الطاقة من مكامنها في البحر الأبيض المتوسط.

ثانياً، انّ المواجهة التي تضطلع بها المقاومة ترتبط بخيارات استراتيجية، وانّ المقاومة باتت في حالة جهوزية عملانية لخوض حرب واسعة، وليس مجرد عمليات عسكرية موضعية او محدودة، من أجل ضمان حقوق لبنان في ثروته النفطية والغازية.

ثالثاً، انّ المقاومة قامت بمسح الأهداف الإستراتيجية ذات الصلة مقابل سواحل فلسطين المحتلة، مشدّداً على انّ ذلك يتجاوز حقل كاريش المتنازع عليه «الى ما بعد ما بعد كاريش» ما يعني في تفكيره إسقاط مظلة الأمن عن كلّ مشروعات وأعمال التنقيب عن النفط والغاز وإستخراج الطاقة من مجمل الحوض الشرقي للبحر المتوسط وتحويله مسرحَ عملياتٍ واسعة النطاق قد تتجاوزه الى أبعد مما يظنّ الأعداء.

رابعاً، إنّ المواجهة تتجاوز مسألة تعزيز مركز لبنان التفاوضي في النقاش حول ترسيم حدوده البحرية الى مسألة حقوق لبنان وحاجته القصوى للإفادة من ثروته النفطية والغازية لمواجهة الأزمة المالية والاقتصادية والاجتماعية التي يعانيها، وان مَن يحاول تخيير لبنان بين الموت جوعاً أو الحرب عليه أن يعرف خيار الحرب هو الأسهل والأجدى.

خامساً، انّ المقاومة لا تُغلق الباب في وجه محاولات قد يقوم بها عقلاء لحمل «إسرائيل» على الإقرار بحقوق لبنان خلال مدة لا تتجاوز اول شهر أيلول/ سبتمبر المقبل، وانّ هذه المدة كافية للعقلاء كي يتدخلوا مع الأميركيين و«الإسرائيليين» لتسهيل الإقرار للبنان بحقوقه بغية توظيف عائداتها في عملية الإنقاذ والإنماء والنهوض.

مواقف نصرالله أمام شعبه من جهة وفي وجه «إسرائيل» من جهة أخرى اكتسبت أهمية مضاعَفة لسببين بارزين ولافتين: توقيتها بالتزامن مع زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن لـِ «اسرائيل» وللسعودية، ولصدقيةٍ يتمتع بها نصرالله نتيجة سنيّ ممارسته الميدانية والسياسية قوامه أنه إذا وعد وفى، وأنه إذا هدّد نفّذ.

الى ذلك كله، ثمة دلالة لافتة ووازنة أفرزتها المشهدية السياسية والصراعية في الآونة الأخيرة هي أنه، وبصرف النظر عما سيكون عليه ردّ فعل «إسرائيل»، ومن ورائها الولايات المتحدة، على مواقف السيد حسن نصرالله، فإنّ لبنان الرسمي وسط انهياره المالي والاقتصادي والاجتماعي وعجز أهل السلطة فيه عن التوافق والمبادرة والفعل بات، شاء أم أبى، مرغماً على أن يصبح، بعد تركيا وإيران ومصر و«اسرائيل»، خامس أقوى دول الإقليم لمجرد أنه مرتكز ومنطلق مقاومة أضحت تمتلك، بإقرارٍ العدو نفسه، من القوى العسكرية المتطورة والوازنة في البر والجو والبحر ما مكّنها من إرساء قاعدة توازنٍ ردعي فاعل منع العدو مذّ انتهت حربه الفاشلة على لبنان سنة 2006 من اجتياحه مجدّداً، وأتاحت للمقاومة اليوم ـ بإقرار من العدو أيضاً ـ القدرة على إلحاق أشدّ الأضرار به أذا ما ركب رأسه وحاول الاعتداء مجدّداً.

هل تندلع الحرب؟

أستبعد ذلك بدليل انّ الرئيس بايدن ضمّ الى وفده عاموس هوكشتاين، الوسيط الأميركي الناشط بين لبنان و«إسرائيل» لتسوية مسألة ترسيم الحدود البحرية بينهما، وطلبَ إليه التوجّه الى الطرفين المتصارعين لإحياء المفاوضات غير المباشرة بينهما بغية التوصل الى تسوية مقبولة.

هوكشتاين كان صرح انه تمكّن من تقليص فجوة الخلاف بين الطرفين، ولا أستبعد أن ينجح أيضاً في تقليص المزيد من فجوات التعنّت «الإسرائيلي» في ترسيم الحدود البحرية. كلّ ذلك لأنّ لبنان أضحى بعد مواقف نصرالله وتعاظم قدرات المقاومة خامس أقوى دول الإقليم!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نائب ووزير سابق

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى