أولى

المؤتمر القوميّ العربيّ المفترى عليه…

زياد حافظ*

 

عقد المؤتمر القومي العربي دورته الحادية والثلاثين في 25 و26 حزيران/ يونيو 2022 في بيروت وسط تحوّلات كبرى على الصعد الدولية والإقليمية والعربية. ومن كان يتابع أدبيات المؤتمر لم يُفاجأ بحدوث تلك التحوّلات التي أشار اليها المؤتمر منذ بداية العقد الثاني من هذه الألفية، حيث أنّ أوراقاً كانت قد أعدّت تنذر بتلك التحوّلات منذ 2003. ما نريد أن نقوله إنّ المؤتمر القومي العربي كان دقيقاً في استشراف المشهد الدولي والإقليمي والعربي ما يدلّ على جدّية المؤتمر، وجدّية الأعضاء، وجدّية الأمانات العامة المتتالية، وجدّية الثوابت والمنطلقات لدى المؤتمر.

لكن هذا لم يمنع المشكّكين الموسميّين الذين يتظاهرون في وسائل إعلام معيّنة للتشهير بالمؤتمر. فمنذ 2003 اتهم المؤتمر بأنه «صدّامي» أيّ تابع للرئيس صدّام حسين الذي اغتاله المحتلّ الأميركي عبر إفرازات العملية السياسية التي استثمر فيها عدد من الدول العربية والإقليمية. كما اتهم المؤتمر بأنه «سوريّ» تابع للنظام السوري. وفي نفس الوقت اتهم المؤتمر بأنه «إخواني» أيّ متعاطف مع جماعة الاخوان المسلمين. ولا يغيب أيضاً الاتهام بأنّ المؤتمر هو «فارسي» (لاحظ ليس إيرانياً بل فارسي ومجوسي!). وآخر التهم هي أنّ المؤتمر هو مؤتمر السلطات القائمة دون تحديدها بل ربما لفقدان اتهام واضح يمكن الاستثمار فيه. فجميع هذه المواقع المتناقضة في آن واحد ألا تدلّ على أنّ المؤتمر مستقلّ الرأي ووحدويّ الثقافة والمنحى والعمل وسط كلّ هذه التجاذبات المتعارضة؟

هذه التناقضات في الاتهامات المختلفة تدلّ على أن المؤتمر حريص أن يكون منصة حوار لجميع التيّارات السياسية التي تصادمت في مختلف الأقطار وهدرت فرص تحقيق الوحدة التي يريدها الجميع. والمؤتمر كان ولا يزال حريصاً على الحفاظ على استقلالية القرار بينما المنظومة العربية الحاكمة لا تستطيع ان تتقبّل الاستقلالية وحرّية الرأي. فعليك أن تكون «تابعاً» لمرجع ما وإلاّ لفتحت الأبواب للفكر الحر والتمرّد على واقع ظالم مستمرّ منذ عقود طويلة ومن إفرازات الحقبة الاستعمارية. وما نريد أن نشير إليه عبر هذه الخلطة من الاتهامات هي عدم فهم ما هو المؤتمر عند أولئك المشكّكين. فالمؤتمر ليس تنظيماً سياسياً له برنامج سياسي يحاول تنفيذه في مختلف الأقطار عبر أعضائه المنتسبين إليه. وليس حركة شعبية تطمح إلى قيادة الجماهير العربية ولم يطمح ليكون مرجعية عربية وإن كان العديد من أعضائه يتمنّون ذلك. المؤتمر هو أوّلاً وأخيراً ملتقى لنخب عربية شعبية وجامعية ونقابية وناشطة في العمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي على الصعيد القطري وعلى الصعيد القومي. المرجعية يفرضها الأمر الواقع وليس الإعلان ولا الطموح بذلك، فالإنجازات والمواقف التي تعبّر عن مزاج الأمة هي التي تصنع المرجعية. وهدف الملتقى هو التشاور في شؤون الأمة والتفاعل بين الأعضاء خاصة بعد أن ساد المشهد العربيّ ثقافة الإقصاء والتكفير في آن واحد. فالمؤتمر يهدف إلى لمّ شمل الأمة المتنوّعة في تكوينها وفي مشاربها السياسيّة لتكريس نهج جديد في التعامل السياسي. وهذا النهج هو التركيز على المشتركات بدلاً من التركيز على نقاط الخلاف والدخول إلى معالجة نقاط الخلاف من باب المشتركات.

لذلك استطاع المؤتمر أن يحقّق تطوّراً كبيراً في مفهوم القوميّة العربيّة عبر اعتماد نهضة الأمة ومشروعها هدف حركة التحرّر العربيّة التي تجسّدها القومية العربية. أما القومي العربي الذي ينتسب إلى المؤتمر القومي العربي في أدبيات المؤتمر، وكذلك في أدبيات مركز دراسات الوحدة العربية، هو (أو هي) من ينطق باللسان العربي ويؤمن بالمشروع النهضوي العربي. ومن تجلّيات ذلك تبرز أهمية الكتلة التاريخية في العمل السياسي لتحقيق الأهداف عبر التركيز على المشتركات وإلا لما استطاعت الجماهير العربية في التعبير عن نصرتها لفلسطين ورفضها للتطبيع مع الكيان واعتماد خيار المقاومة لتحرير كافة التراب الفلسطيني.

الكتلة التاريخية التي يسعى المؤتمر إلى تحقيقها في عمله السياسي تجمع بين كافة تيّارات الأمة. وقد ساهم في صوغ المشروع النهضوي العربي مثقفون وناشطون من كل التيّارات. والكتلة التاريخية تتعرّض للتشكيك من قبل بعض القوميين العرب ومن بعض اليساريين ومن بعض الليبراليين ومن بعض الإسلاميين إلاّ أنها لا تزال قاعدة العمل الجماعيّ في مواجهة التحدّيات التي تمرّ بها الأمة كنصرة فلسطين والمقاومة على سبيل المثال وليس الحصر. والترجمة السياسية للكتلة التاريخية على الصعيد الجيوسياسي تكمن في ضرورة التحاور والتشبيك السياسي والاقتصادي والثقافي أولاً مع كافة الأقطار العربية، وثانياً مع كل من تركيا والجمهورية الإسلامية في إيران على قاعدة أنّ العرب عرب والإيرانيين إيرانيون والأتراك أتراك، وعلى قاعدة الندّية والاحترام المتبادل وليس على قاعدة قوامة ما لطرف على طرف بسبب إما الموروث التاريخي أو موازين القوّة المتحرّكة. كما يدعو المؤتمر أيضاً إلى التفاعل مع دول الجوار في أفريقيا كإثيوبيا والسنغال وحتى جنوب أفريقيا تجسيداً للدائرة الثالثة في فكر جمال عبد الناصر في الدوائر الثلاث لحركة التحرّر العربية التي يحملها المؤتمر.

والمؤتمر القومي العربي عمل على ترسيخ الثقافة الوحدوية التي تتطلّب كبح النزعات الذاتيّة التي تتغلّب على سلّم الأولويات. فالذاتية هي المرض القاتل للمثقف العربي الذي يخوض العمل في الشأن العام. وهي المرض القاتل عند الأحزاب سواء كانت قومية أو إسلامية أو يسارية أو ليبرالية. فقوامة الحزب هي فوق أيّ اعتبار وحتى العقيدة السياسية أو البرنامج الذي من أجله أوجد نفسه. فنظرية «تمكين» الحزب كانت على حساب الجامع القومي. لكن يمكننا أن نتساءل إذا كان الهدف واحداً عند جميع التيّارات المختلفة وخاصة ضمن التيّارات الواحدة فلماذا تعدّد التنظيمات؟ أليست الفئوية المدمّرة تعبيراً عن أولوية الذات؟ ثقافة المؤتمر تحاول دائماً تجاوز قوامة الذات على الهدف المشترك وهذا ما لا يستطيع فهمه العديد من المنتقدين. فالمهمّ ليس «من» ولكن «ماذا» وكيف يمكن تحقيقه؟ ولتحقيق ذلك لا بدّ من الانتهاء من ثقافة الإقصاء سواء كانت عبر التخوين أو عبر التكفير. ومنتقدو المؤتمر يقعون في فخ ثقافة الإقصاء فهم «ضدّ» من يريد تحقيق أهداف المؤتمر بغضّ النظر عن رأيهم في الأهداف.

الثقافة الوحدوية التي يروّجها المؤتمر تتجلّى في شعار «بناء الجسور بدلاً من بناء المتاريس» بين أبناء الأمة الذين يتصارعون على السلطة أو على أيّ قضّية أخرى. ثقافة التجزئة متجذّرة في نخب الأمة من خلال تأثير المدارس والجامعات المتغرّبة أيّ تلك التي اتبعت مناهج الغرب. فالأخير هدفه الاستراتيجي تجزئة الأمة وتفتيتها وعدم السماح لفكرة الوحدة والثقافة الوحدوية. من هنا نفهم الهجوم على مقوّمات الأمة من الدين واللغة ومنظومة القيم التي حكمت سلوك هذه الأمة منذ آلاف السنين. فثقافة بناء الجسور هي التي كانت وراء مبادرات أطلقها المؤتمر للمصالحات الداخلية سواء في سورية أو ليبيا أو اليمن. غير أنّ موازين القوّة آنذاك حالت دون ان تصل تلك المبادرات إلى خواتمها السعيدة علماً أنّ المؤتمر لا يزال مستعدّاً لإحيائها إذا ما لمس أنّ الظروف الموضوعية وموازين القوّة تسمح بذلك. وثقافة بناء الجسور تستدعي لكلّ ملتزم بالقضية القومية أن يمارس بشكل مستمرّ إحدى «الميمات» الأربعة التي أطلقها الأخ الكبير الأستاذ معن بشور أيّ المراجعة، ثم المصالحة، ثم المشاركة، ثم المقاومة. وهذا ما قام به المؤتمر ولا يزال.

وفي آخر المطاف فإنّ استهداف المؤتمر القومي العربي يعني أنه موجود وحيّ وفعّال. كما يعني أنّ محاولة الانقضاض على استقلاليته ليست جديدة ومستمرّة، ولكنها فشلت وستستمرّ بالفشل. فالمؤتمر يجسّد مزاج الأمة ويرفض الخضوع للإملاءات وهذه من ظواهر حيوية الأمة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى