أولى

نحو محكمة شعبيّة لتفعيل التحقيق وضمان العدالة

د. عصام نعمان*

مضت سنتان على انفجار (تفجير؟) مرفأ بيروت. التحقيق ما زال يراوح مكانه. قاضي التحقيق الأول فادي صوان جرى نقله بعد ستة أشهر على تعيينه. قاضي التحقيق الثاني طارق البيطار قدّم المستدعون من قِبَلِه للتحقيق أكثر من 30 طلباً لردّه أو نقله أو مخاصمته قضائياً، بُتّ بعضها، فيما بعضها الآخر ما زال قيد النظر.

اتُهم البيطار بالاستنسابية في الملاحقة، وتالياً بتسييس التحقيق بحجة أنّ المسؤولية الأمنية تحضر أولاً، تليها المسؤولية الوظيفية ثم القضائية وأخيراً السياسية، فيما لم يأبه هو لهذا الترتيب إذ بدأ ملاحقاته بمسؤولين سياسيين (وزراء) من لون سياسي معيّن، ورفض تصويب مسار تحقيقاته، كما رفض التنحي.

لم يصدر حتى الآن أيّ قرار قضائي يكشف ما حدث فعلاً في الساعة السادسة والدقيقة الثامنة من بعد ظهر يوم الثلاثاء الواقع فيه 4 آب/ أغسطس 2020، رغم تسلّم القاضي البيطار تقرير المحققين الفرنسيين الذي استبعد أن يكون مرفأ بيروت قد استهدف بصاروخ، وذلك بعد إجراء تحليلٍ للتربة، ورغم إنهاء فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي تحقيقاته برسم مسار نقل شحنة نيترات الأمونيوم من جورجيا إلى مرفأ بيروت مروراً بعملية تخزينها وصولاً الى انفجارها (أو تفجيرها؟) الأمر الذي ترك القضاء، كما الرأي العام، أمام احتمالين: تفجير متعمّد أو إهمال تسبّب بكارثة مدوّية.

إلى ذلك، فإنّ ثمة تداعيات اقتصادية ـ اجتماعية للكارثة ولتلكّؤ القضاء في إنهاء التحقيق وإصدار قرار ظنيّ بتحديد المسؤول أو المسؤولين عن الجريمة النكراء. مجلس النواب كان أصدر في شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2020 القانون رقم 2020/194 القاضي بتمديد عقود الإيجار في المناطق المتضرّرة من الانفجار لمدة سنة واحدة انتهت في 2021/10/22. كما تنتهي في كانون الأول/ ديسمبر 2022 القيود التي فرضها القانون على نقل ملكية الأبنية المتضرّرة والتصرف بها الأمر الذي يعرّض الآلاف من سكان المناطق المتضررة الى التهجير والهجرة.

فوق ذلك، كان الجيش اللبناني قد أجرى مسحاً للأضرار التي نجمت عن الانفجار ليُصار في ضوئها الى توزيع تعويضات للمتضررين كان قرّرها القانون 194 للعام 2020 وخصصت لها الحكومة مبلغ 1500 مليار ليرة لبنانية (نحو 75 مليون دولار أميركي في حينه)، لكن لم يتمّ توزيع سوى 200 مليار ليرة منها، أيّ ما نسبته 13 في المئة من قيمة الأضرار، توزّعت على 27350 وحدة سكنية مصنّفة (راجع مقالة رحيل دندش في «الأخبار» تاريخ 2022/8/4).

رافقت كلّ هذه الواقعات تطورات سياسية وأمنية عقّدت المشهد السياسي العام وحالت دون تأليف حكومة جديدة بعد استقالة حكومة نجيب ميقاتي بحكم الدستور نتيجةَ انتخاب مجلس نوابٍ جديد في أيار/ مايو الماضي. مع العلم أنّ البلاد تُواجه استحقاقاً دستورياً مفصلياً هو انتخاب رئيس للجمهورية جديد قبل انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون في 31 تشرين الاول/ أكتوبر المقبل، فيما لا يبدو في الأفق ما يشير الى انّ أركان المنظومة السياسية، بشطرَيها الحاكم والمعارض وبإصرارهم على الاحتفاظ بنظام المحاصصة الطوائفية الذي يحمي مصالحهم ومنافعهم، قادرون على مواجهة الاستحقاقات والموجبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية سالفة الذكر ما يضع لبنان على حافة مصير قاتم ومجهول.

إزاء هذه المآسي والتحديات المتناسلة بات محكوماً على القوى الوطنية الحيّة بكلّ تلاوينها ومشاربها أن تحزم أمرها فتقرّر التلاقي والتعاون من أجل إيجاد مخرج للبلاد وشعبها المقهور تحت وطأة الفقر والبؤس وانسداد الأفق السياسي.

النهوض الى العمل يكون بدعوةٍ يوجهها قياديون نهضويون ينتدبون أنفسهم لبناء إطار للتعبئة والنضال بما يتيسّر من مواطنين ومواطنات ملتزمين قضايا الشعب والوطن، يتباحثون ويتوافقون على برنامج للعمل السياسي والاجتماعي على أساس المبادئ والأولويات الآتية:

أ ـ المبادئ أبرزها ثلاثة:

ـ نظام المحاصصة الطوائفيّة هو علّة العلل، من حيث توليد العصبيات المذهبية واستدراج التدخلات الخارجيّة وترسيخ التشرذم والفوضى.

ـ تجاوز نظام المحاصصة الطوائفية يكون بمسار شعبي سلمي إصلاحي متدرّج وديمقراطي وذلك تفادياً لحربٍ أهلية.

ـ النظام البديل هو دولة المواطنة المدنية الديمقراطية المبنية على أسس حكم القانون، والعدالة الاجتماعية، والتنمية.

ب ـ الأولويات أبرزها ثلاث:

ـ التعاون مع الإدارات الرسمية والتنظيمات الشعبية والوكالات الأممية ذات الصلة لتأمين ضروريات المعيشة للناس وأهمّها الغذاء والدواء والماء والكهرباء والنقل.

ـ إقامة محكمة شعبيّة (بمعنى غير حكومية) من شخصيات وحقوقيين من الملتزمين فكراً وممارسةً بالعيش المشترك، والاستقلال، والنزاهة، والخبرة والاستعداد لمباشرة التحقيق في قضية انفجار او تفجير مرفأ بيروت وإعطاء حكمٍ فيها يكفل كشف الحقيقة وإحقاق الحق والعدالة.

ـ وضع قانون ديمقراطيّ للانتخاب يكفل صحة التمثيل الشعبي وعدالته بتنفيذ أحكام الدستور لا سيما المواد 22 (مجلس نواب منتخب على أساس وطني لاطائفي ومجلس شيوخ لتمثيل الطوائف) و 27 («عضو مجلس النواب يمثل الأمة جمعاء» ما يستوجب الدائرة الوطنية الواحدة) و95 («إلغاء الطائفيّة السياسيّة وفق خطة مرحليّة) والعمل على إقراره بلا إبطاء في مجلس النواب، وإذا تعذّر ذلك يُصار الى طرحه في استفتاء شعبيّ بهمّة إطار جامع لقوى شعبيّة وتنظيمات مستقلة للمجتمع المدنيّ.

لعلّ الأولوية الأكثر إلحاحاً في هذه الآونة هي إقامة المحكمة الشعبية كتعبير صريح ووازن عن نهوض القوى الوطنية الحيّة في البلاد الى تعويض الشعب عامةً والمتضررين من أخطاء وخطايا أهل المنظومة السياسية المتحكمة بمواليها ومعارضيها خاصةً، لا سيما بما يتعلّق بكارثة انفجار أو تفجير مرفأ بيروت وعجزها عن مباشرة التحقيق فيها وإصدار حكم يكفل إحقاق الحق والعدالة لأهالي الشهداء والجرحى والمتضررين والموقوفين بغير وجه حق والمواطنين التوّاقين الى حكم القانون والعدالة الاجتماعيّة والكرامة والسلم الأهليّ المستدام.

هذا هو التحدّي وذلك هو الخيار والمسار.

*نائب ووزير سابق.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى